الموضوعية عند علماء اهل السنة ( ابن تيمية أنموذجاً )

  • فضيلة الشيخ د/ عزيز بن فرحان العنزي
  • : 1961
يمتاز علماء أهل السنة والجماعة عن غيرهم بالإنصاف والموضوعية في نظرتهم للآخرين، ومناقشة عقائد المخالفين، ومذاهبهم وآرائهم، ولا يحملون ظلم المخالف وتجنيه عليهم مقابلته بنفس الأسلوب والطريقة، فلا يردون الباطل بالباطل، ولا يقابلون الفاسد بالفاسد، فهم ينطلقون من مبادئ شرعية، وقيم إسلامية تمنعهم من الضياع بين عاصفة البغض أو عاطفة الحب، فهم وسط في كل شيء بين الافراط والتفريط، لا يقفزون على الحقائق، ولا يُحمّلون الأشياء ما لا تحتمل من المبالغة والتهويل، فتجد من قواعدهم ان لازم مذهب الرجل ليس بلازم، وإن كانوا يستخدمونه في المناظرة كأسلوب من أساليب إفحام الخصم لكنهم لا يعدونه مذهباً له، وأيضاً حمل الكلام المبهم على أحسن المحامل، وإيجاد المعاذير الممكنة في تفسير الألفاظ الصادرة عن عالم يستمد كلامه من أصول شرعية مبنية على الدليل، وخير من يمثل هذه المدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وسبب شهرته في هذا الجانب انه من أكثر العلماء الذين ناظروا في الفروع والأصول، وخاض معارك طاحنة مع أهل البدع والزندقة، وتمثّل كتبه أصولاً لأهل السنة في الرد على المخالف، حتى بلغ ببعض المخالفين له أن أفتى بقتله لما تمكّن منه عند السلطان بعد وشاية مغرضة، ومكيدة فاسدة، ليمثّل هذا المخالف أنموذجاً من التخلّف والانهزامية والإفلاس، بسبب ضحالة العلم، وهشاشة التأصيل، وغلبة الهوى على النفس، ويبقى لهذا الصنف أتباع تظل الأمة تعاني منهم، ويشكلون لها أزمة على الدوام والاستمرار، قد انفرط عقد ثباتهم وتحولوا إلى مُتصدرين للحزِّ والقطع، والولوغ في الأعراض دون أدنى مُسوّغ، نعم قد يتكئون على نصوص شرعية، وقواعد علمية عامة يتسترون خلفها، لكنها لا تسعفهم أبداً فيما يذهبون إليه، بل هو العبث العلمي، والقفز على الحقائق، وتلويث البيئة العلمية النظيفة بظلم من القول.
والمستقرئ للهجمة الشرسة التي شنها ويشنها خصوم دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب يظهر له بجلاء حقيقة ما أقول، وقد بيّنت شيئاً من هذا في مقال سابق.
بينما شيخ الإسلام ابن تيمية لما تمكن من هذا المخالف الذي فقد أبسط درجات الالتزام الخلقي والأدبي والعلمي، بعد ما دالت الأمور، وتغيّرت الأحوال، وأصبح هذا المخالف رهين حكم ابن تيمية، وقيل له ما ترى فيه، قال: «نعفو عنه» ليمثّل ابن تيمية بهذا العمل المنهج الطاهر المستمد من مشكاة الأنبياء: «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم»، «اذهبوا أنت الطلقاء» «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»، والذي عليه أهل السنة والجماعة على الدوام.
لقد بلغ التزام الإنصاف والموضوعية عند شيخ الإسلام ابن تيمية أن يصحح للمخالفين أصول منهجهم، نعم! قد يفرح المرء بزلة المخالف، لا سيما إذا جاءت من تلميذ ينقل عن أستاذه، أو من مجتهد في مذهب ما من المذاهب المخالفة، لكن هذا المنهج عند أهل الإنصاف والعدل كابن تيمية وأضرابه من علماء أهل السنة والجماعة غير مرتضى، فهو ينهى كثيراً ممن يناقشهم من أصحاب المدرسة العقلية إلى عدم التجني على أساتذتهم، ويفهمهم انهم لا يقولون بهذا القول، وأن أصولهم لا تقبل هذا التخريج، ولا ذاك التوجيه، والمستقرئ لرسائله رحمه الله يجد هذا المسلك ظاهراً في سائر كتبه ورسائله، ولو تتبع بالبحث لخرج في مجيليد.
وكثيراً ما يرد رحمه الله على العلماء الذي يُلزمون المخالف بما لا يمكن أن يلتزمه فيما لو طولب، حتى ان كثيراً من هذه الإلزامات عن هذه الفرق والمذاهب ما تزال يعدها البعض من مذاهبهم، لكن ابن تيمية يغلط من يلزمهم بما ليس بلازم، أو يتقوّل على ألسنتهم، فلقد رد على ابن حزم حينما قال إن الكرّامية يقولون إن الإيمان هو إقرار اللسان بالله تعالى وإن اعتقد الكفر بقلبه فإذا فعل ذلك فهو مؤمن من أهل الجنة، ونسبه إلى محمد بن كرّام، فقال ابن تيمية: «وقد حكى بعضهم عنهم أنهم يجعلون المنافقين من أهل الجنة وهو غلط عليهم».
ولا يعني بالضرورة أن ابن تيمية يدافع عن الكرّامية، فهو يعدّهم من الفرق الضالة، ولكن ضلال هذه الفرقة لا يسوغ أبداً التجني عليهم، أو الزامهم ما ليس بلازم.. بل يصل الحال بابن تيمية إلى الدفاع عن أئمة المذاهب الأربعة في المسائل الفروعية، ومن تجني فقهاء المذهب عليهم في تخريج المسائل، وجعلها أقوالاً بما لا يتفق مع أصول إمام المذهب.
وفي الحقيقة لا يستغرب المرء من ضياع الموضوعية والإنصاف عند أهل الأهواء والبدع، لأن هذا وصف لازم لهم في الغالب، لكن المُستغرب فعلاً هو عندما يقع بعض أهل السنة في جنس ما يقع فيه أهل الأهواء، من المماحكة، والقفز على الحقيقة، وتحريف الكلام، وتحميله ما لا يحتمل.
وفي تقديري أن غياب الموضوعية لدى هذا النوع راجع إلى أسباب أهمها:
ضعف مراقبة الله تعالى، وعدم محاسبة النفس على ما يبديه الإنسان ويخفيه، وهشاشة التأصيل العلمي والمنهجي، والتعصب الأعمى، وذلك بنصب أقوال الرجال للانتصار، والنظر إلى القائل لا إلى القول، ومصادرة الكلام، والغاء الطرف المقابل، وادعاء المعرفة التامة، والتوهم بأن ما لدى الإنسان من معلومات وأحكام قد وصلت إلى مرحلة اليقين في ظنه، ولا أنسى الهوى الذي يتجارى في النفوس كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه.
وان الخروج من هذا الواقع المنحرف لدى هذه الشريحة الغائبة عن ساحة العدل والإنصاف، لا يكون إلا بمراقبة الله تعالى في جميع الأحوال، وأن يستشعر المرء على الدوام أن الله تعالى مطلع عليه، عالم بخلجات صدره وما يكنه ضميره، وأنه يجب عليه أن يأتي الناس بمثل ما يحب أن يأتوه به، وأن يعلم أن سلوك العدل والإنصاف مع الاخرين يعد انتصاراً على النفس الأمارة بالسوء والشيطان، وتحقيقاً واتباعاً لما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتجاوزاً للمسالك الضيقة، إلى الفضاء الرحب من المروءة والاحسان والشهامة، وينبغي على المرء أيضاً أن ينظر في سيرة السلف الصالح الذين سطروا أروع الأمثلة في هذا الجانب المهم، وقد يكون من المفيد مطالعة ما كتبه الذهبي في سير أعلام النبلاء لكثير من أئمة الإسلام، الذين فتحوا أقنية الحوار مع الآخرين طلباً للحق، لا لحظوظ النفس، وفي تقديري ان إشاعة سير هؤلاء العظماء بين الناس، وذكر ما هم عليه من خلال ما ترجموه من أقوال وأفعال في هذا الجانب بالخصوص تشكّل محاصرة لهذه الظاهرة السلبية الخطيرة، وتطبيقاً نموذجياً لفقه الخلاف والله يتولى السرائر