خطورة الغلو في التكفير

  • فضيلة الشيخ د/ عزيز بن فرحان العنزي
  • : 1870
في تهيب العلماء من مسألة التكفير .

ولأجل ما سلف كان أهل العلم يتهيبون ولوج هذا الباب الخطير ، ويرون أن الحكم على المسلم بالكفر دونه عقبات ومفاوز ، ويرون أن من ثبت إسلامه بيقين ، لا يُنفى عنه إلا بيقين ، وهذا اليقين النافي لا بد أن يكون مثل الشمس في رابعة النهار .
ومع كل هذا !! فأهل العلم والدين يحتاطون للدماء ، فيجعلون الحكم فيه إلى القضاة والمفتين ، لما يترتب على التكفير من الأحكام العامة والخاصة ، فمن كفر أحداً من المسلمين ، وهو غير ذي ولاية ، فهو مفتات على ولاة الأمر ، يستحق العقوبة الزاجرة ، لكون هذا الأمر يجر إلى الفساد العريض ، والهرج الكبير ، فقد يكون بين شخص وآخر خصومة دنيوية ، أو شيئاً من مخبآت النفوس ، فيحاول الانتقام منه عن طريق تكفيره ـ عياذاً بالله ـ والسوابق التاريخية ، والممارسات المعاصرة من بعض من ينحو منحى التكفير خير شاهد ودليل ، ولذلك يُقتصر في الحكم على الآخرين من جهة الردة وعدمه على ولاة الأمور ، ومن يستمد سلطته من ولي الأمر .

وعبارات العلماء في خطورة التكفير ، وتعظيم الخوض فيه لا تخفى على مطلع ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : \\\" فليس لأحدٍ أن يُكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلِط ، حتى تقام عليه الحجة ، وتبين له المحجة . ومن ثبت إيمانه بيقين لم يَزُلْ ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة\\\" ا.هـ

وقال الغزاليّ رحمه الله : \\\" والذي ينبغي الاحترازُ منه التكفيرُ ما وجد إليه سبيلا ، فإنّ استباحةَ الدماء والأموال من المصلِّين إلى القبلةِ المصرّحين بقول : لا إله إلا الله محمّد رسول الله خطأ ، والخطأ في ترك ألفِ كافرٍ في الحياة أهونُ من الخطأ في سفكِ دمٍ لمسلم \\\"

وقال ابن الوزير اليماني رحمه الله : \\\" وفي ضوء ذلك ما يشهد لصحة التلفظ في تكفير المؤمن وإخراجه من الإسلام مع شهادته بالتوحيد والنبوات ، وخاصة مع قيامه بأركان الإسلام ، وتجنبه للكبائر ، وظهور أمارات صدقه في تصديقه لأجل غلطة في بدع ، لعل المكفر له لا يسلم من مثلها ، أو من قريب منها ، فإن العصمة مرتفعة ، وحسن ظن الإنسان بنفسه لا يستلزم السلامة من ذلك عقلاً ولا شرعاً، بل الغالب على أهل البدع شدة العجب بنفوسهم ، والاستحسان لبدعتهم، وربما كان أجر ذلك عقوبة على ما اختاروا أول مرة من ذلك كما حكى الله تعالى ذلك في قوله: (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) وهي من عجائب العقوبات الربانية ، والمحذرات من المؤخذات الخفية قال تعالى : ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) وقد كثرت الآثار في أن إعجاب المرء بنفسه من المهلكات ؛ كما في حديث أبي ثعلبة الخشني عن ابن عمرو مرفوعاً (ثلاث ملهكات شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) ا.هـ .
وإن مما يؤسف له ما نشاهده من بعض من تقحم هذا الباب الخطير ، من أنصاف وأرباع المتعلمين وذلك من تورعهم وفرارهم من الفتوى في أبواب الطلاق ، وفي أبواب الأسهم والمعاملات ، وادعاءه عدم العلم ، أو الإلمام بها ، وضرورة التريث والتأني والنظر !! وفي المقابل جرأتهم العارمة في الخوض في المسائل الثقال ، والتي هي أشد على النفس من حمل الجبال ؛ كالتكفير ، والتفسيق ، والتبديع ، والتضليل !! نسأل الله السلامة !!
وهذه المسألة من صميم عقيدة أهل السنة والجماعة المقتفين آثار السلف الصالح ، فهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله ، عالماً معنى الاستحلال ، وكلامهم في هذا مشهور غير منكور ، فعن أبي سفيانَ قال : سألتُ جابرًا ـ يعني بن عبدالله ـ وهو مجاورٌ بمكّة : هل كنتم تزعُمون أحدًا من أهل القبلة مشركًا ؟ فقال: معاذ الله ، وفَزع لذلك ، فقال رجلٌ: هل كنتم تدعون أحدًا منهم كافرًا ؟ قال: لا .
قال الإمام الطحاويّ ـ رحمه الله : \\\"ولا نكفّر أحدًا من أهل القبلةِ بذنبٍ ما لم يستحلَّه \\\" قال ابن أبي العزّ ـ رحمه الله ـ معلقاً على قول الطحاوي هذا : \\\"إنّ بابَ التكفير وعدم التكفير بابٌ عظُمت الفتنةُ والمحنةُ فيه ، وكثر فيه الافتراق ، وتشتتت فيه الأهواء والآراء ، وتعارضَت فيه دلائلُهم ، فالنّاس فيه على طرفين ووسَط ـ ثم حكى الخلاف ـ ثم قال : وإنه لمن أعظمِ البغي أن يُشهَد على معيَّن أن اللهَ لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلّده في النار\\\"

وقال الإمام النوويّ رحمه الله: \\\" اعلم أنّ مذهبَ أهل الحقّ أنه لا يكفَّر أحدٌ من أهل القبلةِ بذَنب ، ولا يُكفَّر أهلُ الأهواء والبدَع وغيرُهم \\\"
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله : \\\" اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه ؛ إلا ببرهان أوضح من شمس النهار ، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة ( أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) هكذا في الصحيح وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما ( من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه ) أي: رجع وفي لفظ في الصحيح (فقد كفر أحدهما) ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير...\\\"ا.هـ.

ومن أهم قواعد عند أهل السنة في هذا الباب أنهم لا يُكفرون باللوازِم من الأقوال ، فلازم القول والمذهب عندهم غير لازم ، ولا يحكمون على ما يمكن أن تؤول إليه الأفعال ، وإن كانوا ينهون عنها سداً للذريعة .

يقول الإمام الشاطبيّ ، رحمه الله : \\\"مذهبُ المحقِّقين من أهلِ الأصول أنَّ الكفرَ بالمآل ليسَ بكفرٍ في الحال\\\"

وقال الحافظ ابن حجر: \\\" إنَّ الذي يُحكَم عليه بالكفر مَن كان الكفرُ صريحَ قوله ، وكذا من كان لازمَ قوله وعُرِضَ عليه فالتزمَه ، أمّا من لم يلتزمه وناضَل عنه فإنّه لا يكون كافرًا ولو كان اللازم كفرًا\\\" .

يتبع بإذن الله