خطورة الغلو في التكفير

  • فضيلة الشيخ د/ عزيز بن فرحان العنزي
  • : 1849
في أن حكم التكفير لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم .

تحدثت في الحلقة السابقة عن سماحة الإسلام ، ويسر الشريعة ، وأن الغلو بجميع صوره يتنافى مع هذه السماحة العظيمة لهذا الدين ، وهنا أشير إلى أن الحكم بتكفير أحد من الناس أحد أنواع الغلو الذي مقتته الشريعة ، ونهت عنه ، ووجود أحكام الكفر في الشريعة لها ضوابط دقيقة ، فهي لا تخضع للأذواق ، والأقيسة ، والآراء ، والأهواء ، وإنما هو حكم شرعي لله ، تعالى ، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وليست حماً مباحاً يرتع فيه كل أحد ، يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة ، رحمه الله : \\\" التكفير حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال ، وسفك الدماء ، والحكم بالخلود في النار ، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية ؛ فتارة يدرك بيقين ، وتارة يدرك بظن غالب ، وتارة يتردد فيه ، ومهما حصل تردد فالتوقف عن التكفير أولى ، والمبادرة إلى التكفير : إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل \\\"

ويقول أيضاً ، رحمه الله :\\\" فلهذا كان أهلُ العلم والسنّة لا يكفِّرون من خالفَهم وإن كان ذلك المخالِف يُكفِّرهم ؛ إذِ الكفر حكمٌ شرعيّ ، فليس للإنسان أن يعاقبَ بمثلِه ؛ كمن كذب عليكَ ، وزنى بأهلِك ، ليس لك أن تكذِب عليه ، ولا تزني بأهله ، لأنّ الكذبَ والزنا حرامٌ لحقّ الله تعالى ، وكذلك التكفير حقُّ لله ، فلا يُكفَّر إلاّ من كفّره الله ورسوله \\\"

ويقول الإمام العلامة ابن القيم ، رحمه الله :
الكفر حقُّ الله ثم رسولِه *** بالنصِّ يثبت لا بقول فلانِ
من كان ربُّ العالمين وعبدُه *** قد كفّراه فذاك ذو الكفرانِ

ويقول الإمام القرافيّ رحمه الله : \\\" كونُ أمرٍ ما كفرًا- أيّ أمرٍ كان- ليس من الأمور العقليّة ، بل هو من الأمور الشرعيّة ، فإذا قال الشارع في أمرٍ ما : هو كفر ؛ فهو كُفر \\\"

ولقد جاء في الزجر عن التكفير ، والتخويف من عواقبه وآثاره : نصوص كثيرة في الكتاب العزيز والسنة النبوية ، وفي واحدٍ من هذه النصوص ما فيه أعظم زاجر ورادع لمن لديه أدنى مخافة من الله تعالى من الخوض في هذا المرتع الوخيم .

قال تعالى : ( ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) ، ففي هذه الآية نهى الله تعالى عن التنابز بالألقاب ، والنهي يفيد التحريم ، كما هي القاعدة المقررة عند أهل العلم ، إذا لم يكن ثمة صارف ، ومن التنابز بالألقاب ، إطلاق ألفاظ التكفير والتفسيق على المسلمين .
قال بن عبدالبر : قال جماعة من المفسرين في هذه الآية : هو قول الرجل لأخيه ، يا كافر ، يا فاسق .

ولقد حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيراً شديداً من أخطار الذين يُكفّرون المسلمين ؛ فعن حُذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : \\\" إن أخوف ما أخاف عليكم رجلٌ قرأ القرآن ، حتى إذا رُئيت بهجته عليه ، وكان ردئاً للإسلام ، انسلخ منه ، ونبذه وراء ظهره ، وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك \\\" قال : قلتُ : يا نبيَّ الله! أيهما أولى بالشرك ، الرامي أم المرميُّ ؟ قال : \\\"بل الرّامي \\\".

ومما يدلنا على فظاعة التكفير ، وسوء عاقبته ، أن المرمي بالتكفير إذا لم يكن مستحقاً لهذه الكلمة رجعت على قائلها ـ عياذاً بالله تعالى ـ فكان أولى بها وأهلها .

فعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: \\\" إذا قال الرجل لأخيه: يا كافرٌ ، فقد باء بها أحدهما \\\" . قال بن عبدالبر في قوله صلى الله عليه وسلم ( باء بها ) : \\\" أي احتمل وزرها ، ومعناه أن الكافر إذا قيل له : يا كافر ، فهو حامل وزر كفره ، ولا حرج على قائل ذلك له ، وكذلك القول للفاسق : يا فاسق ، وإذا قيل للمؤمن : يا كافر ، فقد باء قائل ذلك بوزر الكلمة ، واحتمل إثماً مبيناً وبهتاناً عظيماً ، إلا أنه لا يكفر بذلك ، لأن الكفر لا يكون إلا بترك ما يكون به الإيمان \\\"

وعن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: \\\"لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق ، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدتْ عليه إن لم يكنْ صاحبه كذلك \\\" . وفي رواية لمسلم : \\\" من دعا رجلاً بالكفر ، أو قال : عدو الله ، وليس كذلك إلا ارتدت عليه \\\"
وعن عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : \\\"سبابُ المسلم فسوقٌ ، وقتاله كفرٌ \\\" .

وهذا غيض من فيض مما ورد في الزجر عن التكفير ، والنهي عن تقحم هذا الباب الخطير ، مما يجعل المؤمن ـ الذي يرجو ما عند الله ويخاف موعوده ـ يتورع في دينه ، ويخلص لربه ، وينقاد لنبيه r ويفر من التكفير فراره من الأسد ، وعليه أن يكون : تواباً ، أواباً ، يكثر من البكاء على خطيئته ، والندم على ذنبه ، وأن يحمل السلامة للمسلمين بقلبه ، ولسانه ، ويده .

يتبع بإذن الله .