صيانة الفتوى عن العبث

  • فضيلة الشيخ د/ عزيز بن فرحان العنزي
  • : 1663
الفتوى توقيع عن الله تعالى. قال محمد بن المنكدر: إن العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم، ولقد كان السلف من أكثر الناس هروباً منها، وكان أحدهم لا تمنعه شهرته بالأمانة واضطلاعه بمعرفة المعضلات حينما يُسأل أن يدفع بالجواب، أو يقول لا أدري، أو يؤخر الجواب إلى حين يدري، فشأن الفتوى عظيم، وخطرها جسيم، وتعيين المفتين منوط بولاة الأمور، لاطلاعهم على الأصلح فيها، ولحسم باب الجرأة من المتعالمين الذين لا يترددون في إفتاء كل من يتعرض لهم، وهم غير مؤهلين لذلك، أو أنهم أهل بدع ومخالفات قد يفسدون أكثر مما يصلحون خاصة إذا تعرضوا لمسائل الاعتقاد، أو الحلال والحرام، أو النوازل التي لا تصلح للفتاوى الفردية، وإنما تتصدى لها دور الفتوى، أو المجامع الفقهية، أو الشورى الجماعية لأهل الحل والعقد من الولاة والعلماء، وهي سنة صحابية، يقول الزهري: كان مجلس عمر مغتصاً من العلماء والقراء (كهولاً وشباناً) وربما استشارهم فكان يقول: لا تمنع أحدكم حداثة سنه أن يشير برأيه، فإن الرأي ليس في حداثة السن، ولا على قدمها، ولكن أمر يضعه الله حيث شاء، وربما سمع عمر رضي الله عنه الرجل يفتي منفرداً فيعلو هامته بالدرة. وزماننا هذا اتسم بمشكلات معقدة، ونوازل عجيبة، واكتشافات علمية، وتطورات إقليمية وعالمية، قابلها فتاوى فردية من مشهورين ومجهولين تمثل في الواقع ردود فعل مستعجلة، لا خطام لها ولا زمام بعد النظر والتمحيص، صادرة بانفعال وعدم روية، تستجيب لعواطف بعض المندفعين، وتحقق رغبتهم في سرعة الحكم على النوازل والحوادث، مشنعين في المقابل على العلماء الربانيين المفرغين للفتوى، وعلى دور الفتوى، ومجامع الفقه، واتهامها بالاستهلاك، وفي واقع الأمر أن التسيب الحاصل في شأن الفتوى، وافتيات البعض في هذ الشأن خاصة في القضايا المصيرية، يمثل ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ المسلمين بهذا الشكل الفج، يقول الخطيب البغدادي:(ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وتقدم إليه بأن لا يتعرض لها، وأوعده بالعقوبة إن لم ينته عنها، وقد كان الخلفاء من بني أمية ينصبون للفتوى بمكة في أيام المواسم قوماً يعيّنونهم، ويأمرون بأن لا يُستفتى غيرهم، والطريق للإمام إلى معرفة حال من يريد نصبه للفتوى أن يسأل عنه أهل العلم في وقته، والمشهورين من فقهاء عصره، ويعوّل على ما يخبرونه من أمره).أ.هـ.
وقال ابن القيم: من افتى الناس وليس أهلا للفتوى فهو آثم عاص، ومن أقره على ذلك فهو آثم أيضا - قال أبو الفرج بن الجوزي: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب، وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبب الناس، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبيب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة، ولم يتفقه في الدين؟ وكان شيخنا - يقصد ابن تيمية - شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء:أجعلت محتسبا على الفتوى؟ فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب. أ.هـ.

وليس هذا تعقيداً أو تضييقاً كما يظن البعض، بل هو ضبط لأخطر أمر في الدين، تتعلق به مصلحة مجموعة الأمة، خاصة وأنه قد خاض فيه، واقتحم ميدانه، من ليس أهلاً له، وصدرت فتاوى مشهورة سفكت بسببها دماء، وأحدثت فتنا متعاقبة، وكدرت الصفو، وجرّت على الأمة ويلات في ظل وجود علماء يشهد لهم القاصي والداني بمتانة الدين، ووفرة العلم، وسلامة المعتقد، وحسن السيرة، ممثلين في لجان الفتوى، وفي هيئة كبار العلماء، وأيضاً في المجامع الفقهية التي ساهمت وبشكل كبير في حل كثير من المعضلات والنوازل