هيبة الدولة واجب شرعي وضرورة دنيوية

  • فضيلة الشيخ د/ عزيز بن فرحان العنزي
  • : 12408

إن من أهم المصالح التي قررتها الشريعة الإسلامية المحافظة على هيبة الدولة وحسم كل ما من شأنه أن يضعف قوتها أو يذهب شوكتها، وقد نظرت الشريعة إلى هذا الأمر على أنه ضرورة تتحقق معها مصالح الدين والدنيا، لأن بقاء الدولة مهابة الجانب يوفر للناس الاستقرار في معايشهم ويحافظون على ضرورات بقائهم، وبافتقاد الدولة لهيبتها فإن هذا مؤذنٌ بفساد عريض وشر مستطير، من: تعطل الحدود، ونجوم الفتن، وتشرذم الناس، واضطراب الأحوال، وهناك ترخص الدماء، وتنهب الأموال، وتبرز العصبيات، وتعلو النعرات، ويتجرؤ العدو، ويُبدل الناس بعد الأمن خوفاً، وفي استشهاد التاريخ واستنطاق الواقع عظة وعبرة لمن ألقى السمع وهو شهيد!! ولذلك تضافرت وتكاثرت واتحدت النصوص في الكتاب والسنة تصريحاً وتلويحاً على وجوب المحافظة على هذه المصلحة وتقويتها وإبقائها، وقطع كل الذرائع التي تفضي إلى الإخلال بها!! ولعل من أقرب الأمثلة التي تؤكد قيمة الدولة وضرورة بقائها مهابة محترمة عند جمهور الناس ما يتعلق بقضية الحدود، فإن إقامتها مناط بالدولة، من: قتل القاتل، وقطع يد اللص الخاتل، ورجم الزاني المحصن، وجلد الداعر، وغيرها من الحدود والتعزيرات المعلومة؛ فليس لآحاد الناس وأفرادهم توليها؛ لأن إقامتها يحتاج إلى قوة، وهذه موجودة في جانب ولاة الأمور الذين جعلهم الله فيصلاً بين الحلال والحرام، ولو تُرك الأمر لكل أحد لأصبحت الأرض رجراجة، والبلاد متكفئة، والدماء رخيصة، ولتسلط القوي على الضعيف، ولخربت الأوطان، وحل الدمار. ولأجل ما سبق فقد نصّ الفقهاء أن على ولي الأمر أن يولي القضاء والمظالم أصحاب الهيبة والحشمة والقوة، لأجل مصلحة مجموع الأمة، قال الماوردي في متولي ولاية المظالم: «لا بد أن يكون عظيم الهيبة» (1)، وقال رحمه الله في الهيبة: «إنها قاعدة الملك، وأساس السلطنة، وذلك لا يكون إلا لمن خيف غضبه، وخشيت سطوته» (2).

 بل إن الدعوة إلى جعل الدولة مهابة الجانب محشومة المقدار في نفوس الرعية أمر معروف في جميع الملل ومتعارف عليه في الأواخر والأُول، قال ابن مسكويه في تجارب الأمم: «ومن حسن سياسة الملوك أن يجعلوا خاصّتهم كلّ مهذّب الأفعال محمود الخصال موصوفاً بالخير والعقل معروفاً بالصلاح والعدل، فإنّ الملك لا تخالطه العامّة ولا أكثر الجند، وإنّما يرون خواصّه، فإن كانت طرائقهم سديدة وأفعالهم رشيدة عظمت هيبة الملك في نفس من يبعد عنه لاستقامة طريقة من يقرب منه» (3).

 بل المتأمل في كلام المشتغلين في الكتابة سياسة الدول يوصون أول ما يوصون في رسائلهم ونصائحهم بضرورة هيبة الدولة، وأنها قيمة عالية، بل هي قاعدة الملك الراسخة، قال الخيرميتي: «وينبغي للسلاطين والوزراء ألا يهملوا السياسة، ويكونوا مع السياسة عادلين، لأن السلطان خليفة الله في أرضه، يجب أن تكون هيبته بحيث إذا رأته الرعية أو إذا كانوا بعيداً عنه خافوا منه، وسلطان هذا الزمان يجب أن يكون أوفى سياسة، وأتم هيبة، لأن أناس هذا الزمان ليسوا كالمتقدمين، وإذا كان السلطان ضعيفاً، أو كان غير ذي سياسة وهيبة، فلا شك أن ذلك يكون سبب خراب البلاد، وأن الخلل يعود على الدين والدنيا، ولم يكن لذلك السلطان في أعين الناس خطر، ولا يسمعون كلامه، ولا يطيعون أمره، ويكون الخلق عليه ساخطين» (4).

ويؤكد هذا الفخري حينما ذكر مجموعة من الآداب التي ينبغي أن تكون في الملك، فذكر منها: الهيبة، وقال: «بها يحفظ نظام المملكة، ويحرس من أطماع الرعية».

 ولذلك من أعظم الوسائل الشرعية المقررة في المحافظة على مقصود الشرع في التأكيد على هيبة الدولة وحشمتها هو وجوب طاعة ولاة الأمور في غير معصية الله، وتعظيمهم في النفوس، وجمع القلوب عليهم، والحذر من معصيتهم والاختلاف عليهم، فإن في الاختلاف عليهم وإضعاف هيبتهم وإذهاب حشمتهم من المفاسد ما لا يدخل تحت الحساب ولا تضبطه أقلام الكتاب، ونصوص الوحيين الشريفين متضافرة في تأكيد هذا الأصل.

وقد أجمع أهل السنة والجماعة على وجوب طاعة الأئمة في غير معصية الله، وأدخلوا هذه المسألة في مصنفات الاعتقاد، كما فعل الإمام أحمد، والآجري، والصابوني، والطحاوي، وغيرهم من أئمة الإسلام، مما يدل على أهميتها وخطورة مخالفتها، وبطاعة ولاة الأمور واحترامهم تتحقق هيبة الدولة، ويأمن الناس على دمائهم وأعراضهم وأموالهم.

ومن الوسائل الشرعية المقررة أيضاً في التأكيد على حشمة الدولة وبقائها مهابة الجانب، عدم الافتئات على ولاة الأمور ومزاحمتهم فيما هو من خصائصهم، لأن في الافتئات عليهم إضعاف لمكانتهم وصرف الوجوه عنهم، وهذا بدوره يضعف قيمة الدولة في نفوس الرعية، ولذلك قاعدة أهل العلم أن: حكم الحاكم يرفع الخلاف، فلو اعتمد ولي الأمر أو من يستمد قوته منه من أهل الحل والعقد قولاً ولو كان مرجوحاً مما يسعه الاجتهاد فإن اختياره يرفع الخلاف.

وهذا التفات منهم إلى قاعدة الشرع التي لا تنخرم وهو وجوب الاجتماع وبذل أسبابه، وحرمة الافتراق وحسم ذرائعه، قال القرافي -رحمه الله، وهو يتحدث عن المصالح العليا والعامة فيقول: (ضبط المصالح العامة واجب، ولا ينضبط إلا بعظمة الأئمة في نفس الرعية، ومتى اختلفت عليهم أو أهينوا تعذرت المصلحة).

 وذكر أيضاً في الفرق بين ما يكون من تصرفات الحاكم فتيا يجوز المخالفة فيها، وبين ما يكون حكماً لا يجوز المخالفة فيها، فذكر من الفتيا التي يجوز أن يخالف فيها الإمام إقامة الجمعة بغير إذن الإمام، فيجوز أن تقام ولو بدون إذن الإمام، ثم قال بعدها: «إلا أن يكون في ذلك صورة المشاقة، وخرق أبهة الولاية، وإظهار العناد والمخالفة فتمنع إقامتها بغير أمره لأجل ذلك» (5).

وقال رحمه الله في موضع آخر: «من البدع مندوب إليه ما تناولته قواعد الندب وأدلته من الشريعة كصلاة التراويح وإقامة صور الأئمة والقضاة وولاة الأمور على خلاف ما كان عليه أمر الصحابة بسبب أن المصالح والمقاصد الشرعية لا تحصل إلا بعظمة الولاة في نفوس الناس، وكان الناس في زمن الصحابة معظم تعظيمهم إنما هو بالدين وسابق الهجرة، ثم اختل النظام وذهب ذلك القرن وحدث قرن آخر لا يعظمون إلا بالصور، فيتعين تفخيم الصور حتى تحصل المصالح، وقد كان عمر يأكل خبز الشعير والملح ويفرض لعامله نصف شاة كل يوم لعلمه بأن الحالة التي هو عليها لو عملها غيره لهان في نفوس الناس، ولم يحترموه وتجاسروا عليه بالمخالفة فاحتاج إلى أن يضع غيره في صورة أخرى لحفظ النظام» (6).

 ولذلك فإنَّ الافتئات على السلطان ينتج عنه سقوط الهيبة، وزوال الحشمة، وتجرؤ الدهماء، وتحفز الغوغاء. ومن الوسائل الشرعية المقررة أيضاً في التأكيد على ضرورة المحافظة على هيبة الدولة وحشمتها اجتناب سب الولاة ونوابهم وانتقادهم عند العامة والخاصة، أو تعييرهم وانتقاصهم، أو المجاهرة بنصيحتهم والإنكار عليهم، أو التشهير بأخطائهم، فإن هذا مما يضعف طاعتهم، ويوهن قيمتهم، ويجعل الناس ينفضون من حولهم، قال ابن مسكويه: «وإذا كان خواصّ الملك ممن يقدح فيهم وتذكر مساويهم، قلّت الهيبة في النفوس» (7).

وإذا وصل الأمر إلى هذه المرحلة، فإن هذا مؤذن بذهاب الأمن!! وإذا ذهب الأمن حلت الفوضى، ونزلت بالناس صواعق الهلاك؛ ولذلك كان السلف الصالح يحذرون من إهانة ولاة الأمور أو نوابهم والتعرض لهم بالثلب، وهذا لا يعني عدم نصحهم، بل كانت نصيحتهم لهم سراً لا علانية استجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فَعَنْ زِيَادِ ابْنِ كُسَيْبٍ العَدَوِيّ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي بَكْرَةَ تَحْتَ مِنْبَرِ ابْنِ عَامِرٍ وَهُوَ يَخْطُبُ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ رِقَاقٌ: فَقَالَ أَبُو بِلَال: «انْظُرُوا إِلَى أَمِيرِنَا يَلْبَسُ ثِيَابَ الفُسَّاقِ» فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَقُولُ: «مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللهِ فِي الأَرْضِ أَهَانَهُ الله» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ (8)

 وفي السنة لابن أبي عاصم عن ابن حلبس عن معاوية بن أبي سفيان قال: لَمَّا خَرجَ أبو ذرٍّ إلى الرَّبَذَةِ لَقِيه رَكْبٌ مِن أَهلِ العِراقِ، فَقالوا: يا أبا ذرٍّ، قدْ بَلَغَنا الَّذي صُنِع بكَ، فاعقِدْ لِواءً يَأتيكَ رِجالٌ ما شِئتَ، قال: مهلًا مهلًا يا أهلَ الإسلامِ؛ فإنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ يَقولُ: سيَكونُ بَعدي سُلطانٌ فأَعِزُّوه، مَن التَمَس ذُلَّه ثَغَر ثُغْرةً في الإِسلامِ، ولَمْ يُقبَلْ مِنه تَوبةٌ حتَّى يُعيدَها كَما كانتْ. (9)

ولقد كان الفاروق عمر -رضي الله عنه -وهو أشهر من قعد لقضايا السياسة الشرعية، يؤكد كثيراً على ضرورة الاهتمام بهيبة الدولة، وعلى قوة ولي الأمر، فمما كان يقوله: «لا ينبغي أن يلي هذا الأمر، يعني أمر الناس-إلا رجل فيه أربع خلال: اللين في غير ضعف، والشدة في غير عنف، والإمساك في غير بخل، والسماحة في غير سرف، فإن سقطت واحدة منهن فسدت الثلاث» (10)

وجاء في وصيته -رضي الله عنه -لأبي موسى الأشعري حين وجهه إلى البصرة: «يا أبا موسى إياك والسوط والعصا أجتنبهما حتى يقال: لين في غير ضعف، وأستعملهما حتى يقال شديد في غير عنف» (11)

 ولقد كانت لعمر رضي الله عنه من الهيبة ما هو مشهور ومذكور!! حتى إن طالب الحاجة يأتيه ليكلمه في حاجته، فما يقدر على ذلك من هيبته، فيرجع ولم يقض حاجته، فأشار الصحابة على عبدالرحمن بن عوف أن يكلمه في ذلك. (12) ولأجل هذا بلغت دولته ما بلغت شأواً كبيراً. وضربت الدولة الإسلامية في عهده الأقاصي القصية من الأرض تنشر النور والخير، ولقد كان رضي الله عنه يشجع كل من يعين على بقاء هيبة الدولة قوية، وحشمة ولي الأمر عالية في نفوس الناس، ولذلك لما قدم الشام، تلقاه معاوية في موكب عظيم؛ فلما دنا منه قال له عمر: أنت صاحب الموكب العظيم؟  قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: مع ما يبلغني من طول وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: مع ما يبلغك من ذاك. قال: ولِمَ تفعل هذا؟ قال: نحن بأرض جواسيس العدو بها كثير، فيجب أن نظهر من عز السلطان ما نرهبهم به؛ فإن أمرتني فعلت، وإن نهيتني انتهيت. فقال عمر: يا معاوية، ما أسألك عن شيء، إلا تركتني في مثل رواجب الضرس؛ لئن كان ما قلت حقاً، إنه لرأي أريب، ولئن كان باطلاً، إنها لخدعة أديب. قال: فمرني يا أمير المؤمنين. قال: لا آمرك ولا أنهاك. فقال رجلٌ: يا أمير المؤمنين، ما أحسن ما صدر الفتى عما أوردته فيه. فقال عمر: لحسن مصادره وموارده جشمناه ما جشمناه(13)

والخليفة الراشد ذو النورين؛ عثمان رضي الله عنه لم يخالف سياسة عمر رضي الله عنه في شيء سوى في اللين للرعية، مما جرؤ عليه السفهاء وآل الأمر إلى قتله، وهو الإمام التقي الورع، ذكر الطبري في التاريخ: «أن عثمان خرج على الناس، فجلس على المنبر، فقال: أما بعد، فإن لكل شيء آفة، ولكل أمر عاهة، وإن آفة هذه الأمة، وعاهة هذه النعمة، عيابون طعانون، يرونكم ما تحبون ويسرون ما تكرهون، يقولون لكم وتقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق، أحب مواردها إليها البعيد، لا يشربون إلا نغصاً ولا يردون إلا عكراً، لا يقوم لهم رائد، وقد أعيتهم الأمور، وتعذرت عليهم المكاسب، ألا فقد والله عِبْتُم علي بما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطئكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدِنْتُم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولِنْتُ لكم، وأوطأت لكم كنفي، وكففت يدي ولساني عنكم، فاجترأتم علي. ولما استشار رضي الله عنه ولاته في أمر الفتنة واجتراء السفهاء عليه، قال له داهية العرب؛ عمرو بن العاص رضي الله عنه: أرى أنك قد لنت لهم، وتراخيت عنهم، وزدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريقة صاحبيك، فتشتد في موضع الشدة، وتلين في موضع اللين، إن الشدة تنبغي لمن لا يألو الناس شراً، واللين لمن يخلف الناس بالنصح، وقد فرشتها جميعاً اللين».ولذلك فإنَّ المتأمل في النصوص الشرعية مستصحباً السوابق التاريخية والأحداث المعاشة والمعاصرة يجد أن المحافظة على هيبة الدولة تعد ضرورة، ومن أهم ما ينبغي السعي إليه، والاعتناء به، وأن على الخاصة قبل العامة أن يبذلوا الوسائل في تحقيق هذا المقصد لأنها في نهاية المطاف هي سفينتهم.

 

 أدام الله علينا الأمن والأمان. وكفانا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن