سماحة الاسلام

  • فضيلة الشيخ د/ عزيز بن فرحان العنزي
  • : 1522
نصوص الكتاب والسنة مستفيضة ببيان سماحة الشريعة ويسرها، والسماحة في أحكامها واضحة جلية لكل من تتبعها في أصولها وفروعها وكتاب الله تعالى قد زخر بالنصوص التي تدل على هذا الأمر وتؤيده، من ذلك قول الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وقال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}، وقال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}، وإذا ما تصفحنا دواوين السنة الشريفة نجد أن الرسول صلى لله عليه وسلم قد جاء بالسماحة واليسر والرحمة بالخلق، كيف لا؟! وقد أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }، فكانت رسالته صلى الله عليه وسلم رسالة الرحمة والمودة والاخفاء والتآلف والتحابب، ولقد أعطاه الله تعالى اسمين من اسمه تقدس في علاه وتنزه، وذلك بسبب ما جبل عليه صلى الله عليه وسلم من الرحمة بالخلق، والشفقة عليهم، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }، وقد كان صلى الله عليه وسلم يمارس اليسر والسماحة في أقواله وأفعاله وتقريراته، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وقال صلى الله عليه وسلم: (يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا) وقال: (إنما بعثت بالحنيفية السمحة) وقال: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه)، والنصوص في الكتاب والسنة في تقرير هذه المسألة أشهر من أن تُذكر، وأكثر من أن تُحصر، وقد استنبط منها أهل العلم قواعد للأمة، فمن القواعد المتقررة بين الفقهاء في المذاهب الأربعة أن (المشقة تجلب التيسير) وأن (الأمر كلما ضاق اتسع وكلما اتسع ضاق) وأنه (لا حرام مع الضرورة ولا واجب مع العجز) ويذكرون على هذا تطبيقات عملية في كتب الفقه. ومن أعظم صور السماحة في هذه الشريعة، نهيها عن الغلو في الدين، وأن الغلو مناف لسماحة الشريعة ويسرها، ومضاد لمقاصدها، ولقد تظاهرت نصوص القرآن والسنة، في التحذير من الغلو في الدين، وبيان عواقبه، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ} فهذا الخطاب وإن كان لأهل الكتاب، فالمسلمون داخلون فيه بطريق الأولى، لأن ما حرمه تعالى في كتابه على أهل الكتاب، وليس فيه ما يدل على أنه خاص بهم، فهو حرام على جميع المسلمين، لا سيما وأن الغلو ممقوت في جميع الشرائع، ومما يؤيد ما سبق بيانه أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الغلو، وأشار إلى أن ما حصل من هلاك لمن سبق من الأمم، إنما كان بسبب الغلو في الدين، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) وصح أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هذا الدين يسر، ولين يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا.. ) وصح أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق).
وقد بينت النصوص الشرعية خطورة الغلو في الدين على الاستقامة فيه، فالله تعالى أمر بالاستقامة فقال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، والاستقامة هي: الاعتدال من دون انحراف ولا تقصير. فلما أمر تعالى بالاستقامة، أعقبها بالنهي عن الطغيان، والطغيان مجاوزة الحد في كل شيء، والغلو: يأتي في أعلى درجات سلم الطغيان، وهو تعد صريح لحدود الله تعالى، وقد بين تعالى أن المتعدين لحدوده (هم الظالمون) قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
والغلو في معناه العام هو: مجاوزة الحد في كل شيء، وأخطر شيء يحصل فيه الغلو حينما يكون في الدين، والغلو في الدين أيضاً مراتب، منه ما يكون في العمليات، مثل رمي الجمرات بحصى كبير، وصوم الدهر، والنذر الذي يتأذي به الإنسان ولو مآلاً، كالوقوف في الشمس، والمشي حافياً، وتحريم المباحات على النفس بقصد التقرب لله، كترك النكاح، وعدم النوم على الفراش، أو تحريم أكل اللذيذ من الطعام، وغيرها مما يجعل قاعدة اليسر التي بنيت عليها الشريعة تختل، ويختل وصف المحبة التي جعلها الله عنواناً لها، كما قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}.
أما النوع الثاني من أنواع الغلو في الدين فهو الغلو في أبواب الاعتقاد، ومن أشنعها، وأقبحها، وأخطرها، هو: الحكم على المسلمين بالكفر، وإخراجهم من الملة بغير دليل من الله تعالى ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس هناك خطر يداهم حياة المسلمين أكبر من خطر التكفير، الذي من وراءه سفك الدماء، وإزهاق الأرواح، وبلبلة الأفكار، وتمزيق الأمة حذائق، وتشتيتها طرائق، كبرت كلمة وساءت حكما!! ولقد جاء في الزجر عن التكفير، والتخويف من عواقبه وآثاره: نصوص كثيرة من السنة النبوية، وفي واحد من هذه النصوص ما فيه أعظم زاجر ورادع لمن لديه أدنى مخافة من الله تعالى من الخوض في هذا المرتع الوخيم. فلقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيراً شديداً من أخطار الذين يكفرون المسلمين، فقد صح من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن، حتى إذا رئيت بهجته عليه، وكان ردئاً للإسلام، غيَّره إلى ما شاء الله، فانسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك) قال: قلت يا نبي الله! أيهما أولى بالشرك، المرمى أم الرامي؟ قال: (بل الرامي). ومما يدلنا على فظاعة التفكير، وسوء عاقبته، أم المرمى بالتكفير إذا لم يكن مستحقاً لهذه الكلمة رجعت على قائلها - عياذاً بالله تعالى - فكان أولى بها وأهلها، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما) وعن أبي هريرة - رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك. وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من دعا رجلاً بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا ارتدت عليه) وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سُباب المسلم فسوق، وقتاله كفر, والغلو في تكفير المسلمين يمثل أخطر الايذاء لهم، وقد توعد الله تعالى من يؤذي المؤمنين، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا}، وصح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: (من ضار مسلماً ضاره الله) ولذلك كان أهل العلم يهابون ولوج هذا الباب الخطير، ويرون أن الحكم على المسلم بالكفر دونه عقبات ومفاوز تنقطع قبلها أعناق الإبل، ويرون أن اليقين بقاء إسلام من أتى يناقض من النواقض وأن إسلامه لا ينفى عنه إلا بيقين، وهذا اليقين النافي لابد أن يكون مثل الشمس في رابعة النهار، وهم مع هذا كله يحتاطون للدماء، فيجعلون الحكم فيه إلى القضاة والمفتين.
ولأجل هذا يرى أهل السنة والجماعة أن الحكم بتكفير أحد من الناس لا يخضع للأذواق، والأقيسة، والآراء، والأهواء، وإنما هو حكم شرعي لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ويقل الإمام القرافي رحمه الله: (كون أمر ما كفراً - أي أمر كان - ليس من الأمور العقلية، بل هو من الأمور الشرعية، فإذا قال الشارع في أمر ما: هو كفر، فهو كفر (وهذه المسألة من صميم عقيدة أهل السنة والجماعة، فهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، وكلامهم في هذا مشهور غير منكور، فعن أبي سفيان قال: سألت جابراً - يعني بن عبدالله - وهو مجاور بمكة: هل كنتم تزعمون أحداً من أهل القبلة مشركاً؟ فقال: معاذ الله، وفزع لذلك، فقال رجل: هل كنتم تدعون أحداً منهم كافراً؟ قال: لا. قال الإمام الطحاوي رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) قال ابن أبي العز رحمه الله معلقاً على قول الطحاوي هذا: (إن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه على طرفين ووسط - ثم حكى الخلاف في ذلك - ثم قال: وإنه لمن أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلده في النهار)، وقال الإمام النووي رحمه الله: (أعلم أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا يكفر أهل الأهواء والبدع وغيرهم).
فحسب امرئ مسلم لله تعالى، يبلغه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وقوله: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) أي: حرمتها واحدة، وقوله: (كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) حتى يخشع لرب العالمين، ويسمع لنبيه صلى الله عليه وسلم ويطيع، فكيف غَرْب لسانه، وغلظ عباراته، وضراوة فكره عن إخوانه المسلمين، ثم يعلم علماً لا يشوبه شك ولا ريبه، أن لا سبيل إلى النجاح في ذلك اليوم المهيل إلا بالتحابب والتناصح بينه وبين اخوانه المؤمنين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم). وإن من أعظم البغي الحكم على الآخرين بالكفر، او أن الله تعالى لا يقبل عملهم، فهذا حكم فيه مزاحمة لله تعالى ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن جندب بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز جل: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان! إني قد غفرت له، وأحبطت عملك).