ركن المقالات
  • هارون الرشيد : الوجه الحقيقي !!

    • فضيلة الشيخ د/ عزيز بن فرحان العنزي
    • 1666
    في تاريخ امتنا عظماء بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ولقد اضحى الكثير منهم لا ذكر لهم، والبعض الآخر يذكرون، ولكن في الغالب بأسلوب مشوه تمجه الاسماع، وتنفر منه الطباع، وهذا الذكر يكون بأحد امرين: اما بإبراز الجانب السلبي فقط عند هذه الشخصية ان وجد ، ومحاولة صرف الانظار بعيداً عن الجانب المشرق لدى هذه الشخصية. واما بالافتراء وتلفيق التهم، ونسبة مالا يجوز نسبته.
    والخليفة هارون الرشيد، واحد من ضحايا هذا الفكر المأفون، والتوجه الخطير.. هارون ذلك الرجل الذي لمع في سماء العالم بعلمه، وفرض اسمه في اوائل الرجال الذين يفتخر بهم التاريخ وذلك بعدله، وحسن سياسته، وحنكة تدبيره، حتى لقد بلغ الاسلام في عصره الزاهر شأناً عظيماً، وانتشرت الدعوة الاسلامية في اقاصي الارض القصية، وازدهرت الحركة الفكرية والثقافية في وقته بسبب تشجيعه العلماء، والادباء، وذلك بتقريبهم، وعقد المجالس لهم، والانفاق عليهم، ناهيك عن جهاده الطويل ضد الروم بالخصوص، ومطاردته المفسدين من المبتدعة والزنادقة، زيادة على النشأة العفيفة، والسيرة العطرة، فلقد كان طاهر الثوب، قليل العيب، خفيف المحمل، متين الديانة، مؤثراً للوقار والحشمة، مرهف الجوانب، يحج عاما ويغزو عاما.
    هذا الحضور القوي على الساحة بجميع جوانبها، وتلك الارادة القوية والمتمثلة في حماية ثغور المسلمين، وجهاد اعداء الدين، وتقريب الصالحين، وكبت المفسدين، جعلت عرق الحسد ينبض في صدور اعداء الملة والدين من الزنادقة والمنافقين، فدبت عقارب كيدهم، وكمنت افاعيهم بكل مرصدة، فصنعوا كل وسيلة، وبذلوا كل حيلة، للنيل منه، فلما اعجزهم الامر وأقعدهم استخدموا الناحية الاعلامية عن طريق التأليف والكتابة وقد تولى كبر هذا الامر الشعوبي الحاقد ابو الفرج الاصبهاني في كتابه الموسوم بالاغاني فلقد انبرى لشخص هارون الرشيد بقلم محموم، ولسان ذلق، ونفس محشوة بمرض الكيد، فشن هجمة شرسة، واخترع على هارون قصصا ماجنة، ووصمه بعيوب ينزه عنها من هو دون الرشيد، فكيف بالرشيد!! وعند الله تجتمع الخصوم.
    لقد قال الاصبهاني في كتابه ذاك افكا، وزوراً بحتاً، يدرك ذلك كل من رزق ادنى مسكة عقل، نعم! لقد امكنته الخلسة، فانتهز الفرصة، بأسلوب ادبي راق، وعبارات جذابة راقت لكثير من المتفسخين من القيم والمبادئ، وجعلوها عنواناً على تفسخهم وانحلالهم، بل لقد تطور الحال بكثير منهم الى كتابة اسم هارون على دور الخنا، ومواطن الريبة، اعتمادا على ما نسبه الاصبهاني عن هارون من الكذب والافك.
    وهناك قاعدة كبيرة من القراء ممن ليست لهم القدرة على تمييز الرغوة من الصريح، ولا الغث من السمين، قد انخدعت بافتراءات الاصبهاني حتى لقد اصبح اول ما ينقدح في اذهان الكثير منهم عند ذكر هارون الرشيد، انه ذلك الرجل المترنح بين البغايا بسبب الخمرة التي لعبت في عقله، وانه السادل في لهوه، المضيع لشعبه وامته، المفرط في امر دينه ودنياه! جاء في مقدمة مختار الاغاني ما يلي:« قسم من تاريخنا مصدره قليلو العلم، او رقيقو الدين، الذين يطلقون فيضاً من الاكاذيب، ويختلقون ركاماً من الافتراءات..ويمر الزمن فيختفي القائل، وتنطمس المعالم، وتغيب القيم، فتختلط الاكاذيب والحقائق وتتشابك، حتى ليعسر على اكثر الناس ان يميز الرغوة من الصريح»ا.ه.
    حقاً لقد زرع الاصبهاني الظغن، وكدر الصفو، وكره المودة، وشكك اليقين، وما ضره لو اشتغل بعيوبه، وتأسف على شربه من ماء اللهو بذنوبه، لاسيما وهو ينسب لنفسه في كتابه الاغاني الفحش في القول والعمل، فهو بريء من الحشمة، بعيد عن الفضيلة، قريب من الرذيلة، يصوم عن المعروف، ويفطر على الفحشاء، ينسب الى نفسه معاقرة الخمرة،ومعاشرة المردان، حتى لقد جمع بين قذارة الروح والجسد فخرج مسخاً، لو نزلت لعنة من السماء لم تقع الا عليه، ولو انفلتت كلمة سوء لم تصر الا اليه، «اعوذ برب الفلق من شر ما خلق».
    ولقد رد الله كيده في نحره، فصار عرضه هدفاً لسهام الاغراض بسبب تعرضه للاعراض، ولا يحيق المكر السيئ الا بأهله. فلقد انبرى له كثير من الباحثين من اهل التحقيق والانصاف فتتبعوا سيرته وحياته فوجدوا الرجل شيعياً كذاباً، مخروم المروءة، جريئاً على الفاحشة، ولا ريب ان هذا الخلق ينبت نباتاً خبيثاً، فكان هذا الكتاب الموسوم بالاغاني، والذي اورد فيه اسانيد مظلمة كالليل البهيم، واتى بأعاجيب:«بحدثنا واخبرنا» فيظن الغر انه اسند، ومن اسند فقد برئ، ولم يعلم ان هذه كلها من احابيله التي يصيد بها مَنْ لم يتمرس على معرفة علم الاسناد، واحوال الرجال، ولقد تصدى للاصبهاني وكتابه كثير من الباحثين وبينوا فقر الكتاب الى الامانة التاريخية والادبية، وان الكتاب يحمل من المخازي الفظيعة ما لم يسمح به ملحد فضلاً عمن ينتسب للاسلام، فلقد تناهى في قذف ائمة السلف الماضين، وثلب اهل الحق وعصابة الدين من الصحابة والتابعين، ورميهم بالعظائم، مما يكشف خطورة ما يحمله من امراض افضت به الى هذا العداء السافر، والذي لا يترك مجالا للاعتذار عنه.
    وافضل من كتب في هذا ممن وقفت عليه، صاحب السيف اليماني فلقد عراه، ونحره بسيف الانصاف والعدل، شكر الله له، ولكل المنصفين.
    والحقيقة انني ما اردت في مقالي هذا استقصاء هذه المسألة، فلن آت بجديد، وايضاً لن اقف على حصرٍ لاولئك الضحايا بسبب اقلام الافاكين، لكنني قصدت ان يكون سبباً مثيراً يلفت انتباه القارئ الكريم الى ضرورة التريث وعدم اصدار الاحكام على كثير من رموز الاسلام، استناداً على كتاب من كتب الادب اوالتاريخ، وان يخرج من سطحية التفكير، او الانغلاق على كثير من تلك الكتب والتي تدور اهتماماتها في الغالب على تسويد تلك الصفحات البيضاء في تاريخ امتنا الخالدة، فيقف معها موقف المتفحص والمتأمل، ولو لم يكن له علم «بحدثنا واخبرنا» فيكفيه معرفة ما تحمله من افك وزور تلك التناقضات المتداعية، فليس في المقدمات البدهية ماهو اجلى واوضح من كون ذلك المجد الذي بناه هارون، وتلك الحياة الطاهرة التي عاشها بين العلماء، والزهاد، والوعاظ، وتلك الدمعة الحارة التي طالما كانت حاضرة عند سماع موعظة، اونصيحة، وتوزيعه الحج والجهاد بين السنين، لا يجتمع وتلك الفِرى التي اختلقها الافاكون لامتناع الحس عن قبول المتناقضات في المحل الواحد، وهذا مما يدرك بأوائل العقول قبل اواخرها.
    وأدعو القارئ الكريم الى الاعتصام بتلك القاعدة الجليلة التي ذكرها ابن العربي المالكي في كتابه «العواصم من القواصم» وهي قوله:«انما ذكرت لكم هذا لتحترزوا من الخلق وخاصة من: المفسرين، والمؤرخين، واهل الآداب، بأنهم اهل جهالة بحرمات الدين، او على بدعة مصرين، فلا تبالوا بما رووا، ولا تقبلوا رواية الا عن ائمة الحديث، ولا تسمعوا المؤرخ كلاما الا للطبري، وغير ذلك هو الموت الاحمر، والداء الاكبر، فانهم ينشؤون احاديث فيها استحقار الصحابة، والسلف، والاستخفاف بهم، واختراع الاسترسال في الاقوال والافعال عنهم، وخروج مقاصدهم عن الدين الى الدنيا، وعن الحق الى الهوى، فاذا قاطعتم اهل الباطل واقتصرتم على رواية العدول سلمتم من هذه الحبائل، ولم تطووا كشحاً على هذه الغوائل، ومن اشد شيء على الناس جاهل عاقل، او مبتدع محتال، فاذا صنتم اسماعكم، وابصاركم عن مطالعة الباطل، ولم تسمعوا في خليفة مما ينسب اليه مالا يليق ويذكر عنه مالا يجوز، كنتم على منهج السلف سائرين، وعن سبيل الباطل ناكبين».ا.ه المقصود من المختصر.
    فاذا توفر مثل هذا المنهاج للقارئ سلم فكره باذن الله من هذا الفكر الدخيل، ان يفترسه امثال هذا الطرح الذي اختلقه اقوام قد دفنوا الامانة، وسمحوا لانفسهم وهم الاقزام ان ينالوا من العمالقة، وان يعبثوا بتاريخ امتنا الخالدة
    ....
    المزيد
  • دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب صخرة تتكسر عليها دعاوى الشانئين

    • فضيلة الشيخ د/ عزيز بن فرحان العنزي
    • 1972
    لا يخفى ما منَّ الله عزوجل به على أهل الاسلام نجدا وغورا، سهلا وجبلا، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا من الدعوة المباركة على يد الامام المجدد محمد بن عبدالوهاب سقى الله ضريحه وابل الرحمات، فلقد أتى الله به الأمة المحمدية في وقت الاحتياج غوثا، وفي إبان الاستمطار غيثا، في زمن عاثت فيه الخرافات والشعوذات والخزعبلات في قلوب الناس ونفوسهم، وقامت في بلاد المسلمين عامة وفي الجزيرة العربية خاصة رموزاً للوثنية والجاهلية من المشاهد والقبور والأضرحة والجمادات والتي جعلها غالب الناس قبلة قلوبهم، ومهوى أفئدتهم، ومكان رغباتهم ورهباتهم، وملتقى حجهم، يسكبون عندها العبرات، ويضجون لها بالدعوات،يعتقدون في المقبورين أنهم يشفون المريض، ويردون الغائب، ويرزقون الولد، وينجون الغريق، ويطفئون الحريق، ويتصرفون في معالم الكون، فدفعهم هذا الى صرف كثير من أنواع العبادات لهم؛ كالذبح والطواف والدعاء والنذر.. وغيرها مما هو محض حق الله تعالى وحده لا شريك له، وفُتن الناس في المقبورين، فعظموا قبورهم، وشيّدوها، وبنوا عليها المساجد، فلا تسل عما يحصل عندها من المنكرات العقدية والسلوكية الشيء الذي يكاد يظلم له ما بين الأرض والسماء، وقد سجل لنا التاريخ شيئا كثيرا من هذه المعضلات؛ يهرم على هذه الأمور الخطيرة الكبير، ويشب عليها الصغير، قد أعمتهم العادات وما ورثوه عن الآباء والأجداد عن قبول الحق، وقد أضفوا أنواعا من القداسة والكهنوتية على أشياخهم من عُبّاد الأضرحة والقبور، وأن الحجة فيما يفعلونه، وهكذا من الطوام، وهؤلاء الأشياخ يوغلون في إضلال الناس، ويعلمونهم الشرك ويقولون هذا هو التوحيد، ومن قال غير ذلك فهو شانىء للنبي صلى الله عليه وسلم، غير معظّم للأولياء، فيحّرضونهم في التوجيه الى هذه المقامات والمعبودات؛ ليكون قلوبهم أشربت حب البدع والتعلق بالمقبورين، ولما يعود به هذا العمل عليهم من المكاسب الدنيئة الفاجرة من خلال النذور والأوقاف على هذه المشاهد، فهم لم يزيدوا الأمة إلا ضلالا وتأخراً، ولم يضيفوا للأمة من النجاح إلا قطعانا من الدراويش يخرجونهم من خلواتهم، لا همَّ لهم إلا التبرك بالمقبورين، والتطواف بين الأضرحة والمقامات؛ فأصبح الدين غريباً، والسنة مستهجنة، والصادقون من أهل العلم من دعاة التوحيد والسنة منبوذين.
    فقام الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله المولود سنة 1115ه والمتوفى سنة 1206ه الذي اختاره الله عزوجل على علم، وميزه من بين أهل عصره بما جبله عليه من الحكمة والفهم قَومة المجددين، ونهض نهوض المجاهدين، يدعو الى التوحيد، وتخليص الاسلام مما شابه وكدّره من البدع والشركيات، وارجاع الناس الى الأصلين العظيمين اللذين من اعتصم بهما لن يضل أبداً:«كتاب الله» و«سنة نبيه صلى الله عليه وسلم»، وقد صرف حياته كلها في هذا السبيل؛ لكون هذه الفتنة العمياء، والجاهلية الظلماء، قد أتت على الأخضر واليابس، وغالب علماء زمانه ممن كانوا على الجادة مع استظهارهم على العلوم؛ كل امرئ منهم قائم في ظله لا يبرح، وراتب على كعبه لا يتزحزح، يخاف إن أنكر على القوم أن يعنف، وإن ألفَّ أن يُخالف ولا يُؤالف، أو تخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، وكان غاية همِّ أحدهم أن يضيق المسالك على أصحاب المذاهب الفقهية، وأن ينتصر عليهم في المناظرات الفروعية، وذلك بتحرير أقوال الأئمة، أو التأليف في نصرة المذهب، وتواليفهم في هذا إما اجترار أو اختصار، فقام الشيخ رحمه الله يدعو الى تجديد الدين مما أفسده الخرافيون، والعودة بالناس الى المعتقد السليم، وقد عضده الله عزوجل ببقايا الدول ونجايا الملوك الأول «آل سعود» خاصة صاحب السعي الناجح والمقتدي بالسلف الصالح، الامام محمد بن سعود رحمه الله الذي تبنى دعوة الشيخ لكونها دعوة الحق التي جاء بها خاتم الأنبياء والمرسلين، فأيده وناصره؛ فاجتمعت قوة العلم مع قوة السلطان، وكتب الله عزوجل لها الظهور والانتشار، فدخلت بيوت الشجر والمدر، وبلغت السهل والجبل، ودان لها الناس فحصل لهم الأمن النفسي، والفكري، والإقليمي، والاجتماعي، فاصبحت هذه البلاد والى يومنا هذا مضرب المثل في توفر الأمن والاستقرار وصفاء العقيدة، والسمو عن وحل الشعبذات والهرطقيات والأوهام، الى دوحات التوحيد والسنة والتوفيق، وحصلت كثير من البلاد المتاخمة كثيرا من هذا الخير وصدق الله القائل:(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم «الظلم» في هذه الآية ب«الشرك»، ومن طلب زمانا صافيا عن الأقذاء والأكدار فقد حاول ما يند عن الامكان والاقتدار:

    ومُكلف الأيام ضد طباعها
    متطلب في الماء جذوة نار

    أقول هذا لأن كثيرا من أصحاب المثاليات، يريدون مجتمعا مسلما 100% وهذا مالا يمكن وجوده ولو في الصدر الأول من هذه الأمة، فالناس يريدون من غيرهم الكمال، ويتسامحون به مع أنفسهم، فالله المستعان.
    والمتأمل لدعوة الشيخ رحمه الله يجد أنَّ شجرة دعوته قامت على ساقين عظيمين وهما: تحقيق التوحيد، وتجريد المتابعة للنبي صلى الله الله عليه وسلم، فاعتلت هذه الشجرة باسقة تزاحم النجوم في عليائها، وخرَّج الشيخ رحمه الله أمة لا تبعث بها الخرافات والأساطير والأوهام، ولا تصل اليها يد التبديل والتغيير، قد طهّرت بلادها من الشركيات والبدع، هذه الأمة قام عليها الشيخ بعد جهاد طويل فعلّمها العقيدة الصافية التي هي أسُّ المبنى، وزرعها في تراب ترائبهم فجنت ما تتفيأه من الصفاء والنقاء وصدق التوجه؛ حتى قال الشيخ فيهم:«وإن العاميَّ منهم يغلب ألفاً من علماء المشركين».
    ولما كانت هذه الدعوة قائمة على الاعتقاد السليم، الموصول سببه برسول الله صلى الله عليه وسلم، وحصلت هذا الحضور القوي في الساحة الاسلامية، وبدأ صداها يتردد في مشارق الأرض ومغاربها، عن طريق الحجاج والمعتمرين والتجار والمسافرين، وبدأت تتهاوى عقائد الخرافيين، وأصبحت هذه الدعوة مهوى أفئدة الصادقين من الباحثين عن الدين الحق؛ نبض عرق الحسد في صدور المشركين والمبتدعين والخرافيين، فمكنت أفاعيهم بكل مرصدة، وصنعوا كل حيلة، وبذلوا كل وسيلة للقضاء على هذه الدعوة، حتى وصل الحال بشن حروب عسكرية لارهاب أهل التوحيد فدمرت بيوتهم، وحوصرت مدنهم، وتُفننَّ في قتل علمائهم، وحرق نخيلهم، وتفريقهم على الأقاليم والبلدان تحت الاقامة الجبرية وغيرها من وسائل الارهاب، وتتبعوا مصنفاتهم بالحرق، وما زادهم هذا الأمر إلا اصرارا في المضي لتبليغ هذه الدعوة التي ليس لهم فيها إلا متابعة خاتم الأنبياء والمرسلين، فلديها من المعطيات ما يضمن لها الديمومة والبقاء بإذن الله فهي تستقي دعوتها من منبعين عظيمين لا ينضبان أبداً «القرآن والسنة»، وتستنبت منهجها من القرون المفضلة المشهود لها بالخيرية على لسان رسولنا صلى الله عليه وسلم.
    ولما أعيت الخرافيين الهجمات البربرية، بدأوا بأحدوثة إعلامية، وبأكذوبة شيطانية، يضاهئون فيها قول الذين كفروا من قبل، مما فعلته كفار قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم من الكذب والتلفيق عليه وزعمهم أنه ساحر.. شاعر.. كاذب.. كاهن.. مجنون.. يفرق بين المرء وزوجه وغيرها مما يسوِّله لهم الشيطان ويملي عليهم، وبدأوا في سلوك هذا النمط من التشويه والتشكيك، فأخذوا يكيلون على إمام الدعوة وعلمائها من التهم والكذب ما يستحي ابليس من قوله وفعله، وما زاد الدعوة أمام هذا الطوفان من التهم والمين إلا انتشارا ومحبة وقبولا لدى شريحة كبيرة من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فلما كانت الأرض لا تخلو من عقلاء منصفين، وأماثل معتدلين قامت مجموعة من عقلاء العلماء في كثير من بلدان العالم، فتفحصوا أمر هذه الدعوة، وسبروا غورها، آخذين الخبر من مظانه، لأن الانصاف والعدل يقتضيان من المرء ألا يحكم بالظنون؛ فالظن ليس ذا قيمة في اكتشاف الحقائق يقول تعالى:( إن الظن لا يغني من الحق شيئا) إنما الذي يوصل الى الحقيقة هو التبين والتثبت يقول تعالى:(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) فكلما وقف الانسان مع الحقائق وأخذها من مظانها، كلما توصل الى الحقيقة بعينها بإذن الله سبحانه وتعالى، فلما وقفوا على حقيقتها من خلال قراءة مصنفات أئمة الدعوة النجدية، أومذكراتهم، ومقابلتهم، علموا صدق دعوتهم، وأنهم لم يأتوا بجديد وإنما أعادوا الناس الى الأمر العتيق الذي عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فتمكنت هذه الدعوة من قلوبهم بل أخذت بشغافها، فتبنوها، ودعوا الناس اليها؛ لكونها دعوة الاسلام الصافية؛ فخرجت خارج الجزيرة العربية، بل وصلت الى الأقاصي القصية، من بلدان العالم، يجيب أتباعها على أهل الخرافة والبدعة بما ذكره بعض الأماثل ممن تأثر بهذه الدعوة المباركة وهو ابن عمران:

    إن كان تابع أحمد متوهبا
    فأنا المقر بأنني وهابي

    والشيخ ابن عبدالوهاب رحمه الله مصنفاته البحار الزواخر، والتي لجواهرها وكثرتها وقوة مادتها لا يعرف لها أول ولا آخر، مثل :«ثلاثة الأصول» و«كشف الشبهات» و«آداب المشي الى الصلاة» وغيرها كثير، ومن خواص كتبه والذي اعتنى به أهل العلم: تحقيقا، وتخريجا، وشرحا، وتحشية «كتاب التوحيد» هذا الكتاب العظيم الذي كلما طالعه المرء، وتأمل ما في مبانيه ومعانيه انشرح صدره لحل كثير من المعضلات، وفك كثير من المشكلات المتعلقة بالاعتقاد، ولا ريب ان هذا الشأن لا يكون إلا لأنفاس من خصه الله بالفقه والفهم، فكتبه رحمه الله تكاد تجمع العقول السليمة على سلامتها ومتانتها، هذه الكتب ما قرأها عالم لا يعرف مؤلفها إلا ويخبر بأن هذا النمط من التأليف من جنس تصنيف الامام البخاري ونفسه في الكتابة، واضرابه من علماء السنة والجماعة عبر الأزمان المتتابعة، وقد سجل لنا التاريخ شيئا كثيراً ليس هنا مجال بسطه.
    وثم طائفة نشاز، في الغي حائفة، وعن الطريق السوي ناكبة، وهم جذعان لم يقرحوا، ومتفذلكين طاروا ولما يريشوا، يظهرون بين فينة وأخرى، وبعضهم ضحية صيحات بدعية، يريدون أن يشتهروا على أكتاف الجهابذة، يعظمون النكير على بعض مصنفات الشيخ رحمه الله بعيدين كل البعد عن الموضوعية في الطرح، والمنهج العلمي في الرد، حتى لقد بلغ قصور فهم واحد منهم، وضعف ادراكه، ان حمل كلام المجدد رحمه الله مالا يحتمل لا بمنطوقه ولا بمفهومه، فجاء بأمور أغرب من العنقاء، وفسر كلاما للشيخ يدرك معناه صغار الطلبة، بل انه يفهم بأوائل العقول قبل أواخرها، وأخذ يضع للشيخ قواعد وينسبها اليه من خلال خلفيات يحملها هو، والشيخ لم يقلها وبريء منها، ولست هنا في صدد تفنيد كلامه ولا مذكرته التي يوزعها على العامة، لأنها لا تستحق من يسود لها بيضاء، ولأني أردت أن أسوق أنموذجا لمن يريد ان يشتهر على أكتاف العظماء بنقدهم، وذلك بانتفاء الأقوال وبتر النصوص على ما يناسب هوى المنتقي الذي يهمه في المقام الأول تشويه صورة الخصم بعرض جزء من كلامه، واسدال الستار على باقي نصوصه وقواعده، الذي ربما قد لا يستقيم الكلام إلا بها، وهذا عند جميع فرسان الكتابة والتصنيف: مناف لأبسط درجات الالتزام الخلقي والموضوعي؛ فضلا عن كونه محرماً شرعا ومتوعداً صاحبه بالعقوبة العاجلة!!.
    وكان الجدير بهذا وأمثاله أن يتعلموا ويتفقهوا ويجلسوا في دروس العلم ويستمعوا لشرح العلماء في كتاب كشف الشبهات وغيره من كتب أهل العلم:

    عليَّ نحت القوافي من معادنها
    وما عليَّ إذا لم تفهم البقر

    هذه الكتب التي سارت بها الركبان في جميع الأوطان، واعترف بحسنها الحاضر والبادي، والداني والقاصي، والصديق والعدو، وعلى طول الزمان تفنى التشغيبات وتندثر الردود والكتابات وأصحابها، وتبقى كتب الشيخ ابن عبدالوهاب وأئمة الدعوة تسير في طول العالم الاسلامي وعرضه، وتلقى من القبول والانتشار الشيء الذي لا تحظى به كثير من كتب الاسلام.
    ومما صنعه المناوئون للشيخ ولدعوته، وما كادوا به: اطلاق لقب «الوهابية» عليها وعلى كل من ينتسب اليها، وأخذوا يبالغون في ذمها بما لا يقال في حق يهودي أو مجوسي، حتى تجاوزت المبالغة بالتشنيع الحدود والأقطار فزعم بعضهم وهو يتحدث عن «شيخ الاسلام ابن تيمية» انه وهابي من اتباع الشيخ محمد بن عبدالوهاب!!.
    وزعموا ان دعوة محمد بن عبدالوهاب فرقة محدثة، وطائفة خارجة، يكفرون المسلمين، ويدعون الى غير سبيل المؤمنين، كل ذلك ليسحبوا البساط من تحت أرجل علمائها ، ويُنفَّر العامة والدهماء من الناس عن هذه الدعوة، وهم يريدون من هذا اللقب مستودعا لكذباتهم وافتراءاتهم متى شاءوا وأرادوا، ليلصقوا التهم، والكذب فيها، وأبى الله تعالى إلا أن ينصر أولياءه؛ فكان هذا اللقب منقبة لهم غير منقصة «ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله» فانقلب السحر على الساحر، وانقلبت المنقصة التي زعموها الى منقبة، فلقد نسبوهم الى الوهاب جل في علاه، وفي الوقت ذاته لم نسمع عن واحد من أئمة الدعوة والى يومنا هذا من ينتسب الى الوهابية، فالجميع يتشرفون بالانتساب الى سلف هذه الأمة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين ممن شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية ومن سار على طريقتهم، وأخذ من هديهم ودلهم وهذا أمر مشتهر عند العامة فضلا عن الخاصة اشتهار الصباح في سواد الظلام، وأنهم أبعد الناس عن التكفير إلا لمن كفره الله تعالى، وأنه حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله، وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله.
    ومن افترءاتهم أنه جاء بمذهب جديد خامس ليبطل باقي المذاهب الاسلامية الأربعة والتي ينتسب أصحابها الى أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؛ وهذا أمر في غاية الكذب، لا يعدو كونه صرير باب أو طنين ذباب؛ فالشيخ حنبلي وهكذا سلفه حنابلة وكان رحمه الله يعظم الأئمة وله أقوال عظيمة في هذا الشأن تكتب بماء الذهب، وكان يجتهد في المذهب، يتخير فيه، جاريا في أغلب أحواله في مضمار ابن تيمية وابن القيم وابن رجب وغيرهم من أهل العلم من ذوي التحقيق في المذهب.
    نعم كان يعيب التعصب الأعمى الذي ابتدع في القرن الرابع، وذلك بجعل أقوال الرجال مذاهب للانتصار والانتصاب، وترك نصوص الكتاب والسنة، والاستغناء عنها بأقوال الرجال وتطويع النصوص لأقوالهم، والأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الدين متفقون على أنه:«لا يحل لأحد أن يأخذ بأقوالهم متى ما استبانت لهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما قالوا» وهكذا أهل العلم يقولون:«لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا» وأقوالهم في هذا لا تخفى على مطلع. فدعوى أنه جاء بمذهب جديد، دعوى يكذبها الحس والواقع.
    ومن أعجب كذباتهم وافترائهم دعواهم ان هذه الدعوة تدعو الى التخلف وعدم مواكبة العصر وعدم استعمال الحديث من التقنيات، وارجاع الناس الى ركوب الدواب، وهذا كلام في غاية السقوط، فهذه الدعوة الربانية جاءت لعمارة الدنيا والسعي للأخرة، وتدعو الى الأخذ بالجديد والحديث، وخير دليل ما تشهده المملكة العربية السعودية من تنمية أذهلت العقول، وجعلتها في مصاف الدول العظمى، ومن تطور في العمران، واستعمال الجديد، والتقدم والرقي وذلك بالتعامل عن طريق التكنولوجيا الحديثة في جميع المؤسسات الحكومية والأهلية، والاندفاع نحو الحديث بأخذ ما هو صالح متوافق مع القواعد العامة للشريعة التي جاءت بحفظ الضرورات الخمس التي أجمعت جميع الملل على حفظها وفتح جميع الوسائل التي تدعو الى بقائها وهي الدين والنفس والعقل والمال والعرض، وترك ما هو ضار من الأشياء التي لا يتعلم منها البليد ولا ينتفع بها الذكي.
    هذه الدعوة المباركة نفخت روح الاعتناء في ولاة أمرها الذين تبنوا هذه الدعوة وناصروها من جهة التنمية، والتطور، والأخذ بزمام المبادرات الداعية الى التقدم الحضاري، وكمثال واحد على ذلك وهو شاهد لكل من له عينان عمارة الحرمين الشريفين ما يقطع قول كل خطيب!!
    وفي الحقيقة ان هذا المقال ليس مجالا للجواب عن كل تلك الافتراءات والتي يثيرها البعض بين فينة وأخرى، والساحة مليئة بالكتابات في هذا الشأن، والصادقون من هذه الأمة لهم مساهمات معلومة سواء من علماء الجزيرة العربية، أو من هم خارجها؛ كالسهسواني في «صيانة الانسان»، وكمسعود الندوي في «الشيخ محمد بن عبدالوهاب داعية مظلوم ومفترى عليه» وغيرها كثير
    ....
    المزيد
  • حرمة الدم الانساني

    • فضيلة الشيخ د/ عزيز بن فرحان العنزي
    • 1661
    إن المتأمل في نصوص الشريعة يجد أن الإسلام يعظم حرمة الدم الإنساني، فالأصل في الدماء عموماً العصمة، والحكم بهدرها شيء طارئ، ويكون ذلك بارتكاب المرء ما يستحق عليه القتل بنصوص قطعية من الكتاب والسنة لا تحتمل التأويل، ولأجل هذا يقرر الفقهاء أن قتل الأنفس لا يجوز الإقدام عليه إلا بمسالك ضيقة موضحة في نصوص الشريعة، من ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة. وأيضا من القواعد المقررة عند أهل العلم أنه لا يجوز أن يتولى قتل الأنفس (بحق) آحاد الناس وأفرادهم، كرجم الزاني، أو قتل القاتل، أو من أظهر ردة صريحة: عالماً، مختاراً، قاصداً، ونصوا على أن من يقدم على هذا يعد مفتئتاً على السلطان، يجب تعزيره بأشد العقوبات، لأن إقامة الحدود يشترط لها قوة شرعية وسياسية، تحسم مادة الشر التي تتولد من الثأر والانتقام، ويأمن الناس من الحيف عليهم، وهذه موجودة في السلطة الحاكمة، وفيمن يستمد سلطته من الحاكم أو السلطان وهم القضاة، هذا في القتل بحق، فكيف بالباطل؟!! ولأجل هذا جاء الوعيد الشديد، والعذاب الأكيد، على من قتل نفساً بغير حق، فلقد ورد ذكر قتل الأنفس المعصومة بعد الشرك بالله تعالى في نصوص الشريعة، مما يدلنا على أنه من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، ونصوص الكتاب والسنة مستفيضة بذكر خطورة سفك الدماء بغير حق، قال تعالى :{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}.. وقال سبحانه وتعالى:{.. أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}وذكر الله تعالى صفات المؤمنين أنهم لا يرتكبون فظائع الآثام، وعظائم الذنوب، ومن ذلك القتل، وقد جاء ذكره بعد الشرك به سبحانه وتقدس، فقال:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة من الأحاديث فيها تعظيم حرمة الدم الإنساني، وحرمة إزهاق الأنفس المعصومة، وبيان الجزاء المترتب على ذلك، وفي واحد من هذه الأحاديث ما يزجر ويردع من لديه أدنى مخافة من الله تعالى؛ عن الإقدام على مثل هذه الجريمة، والفعلة الشنيعة، فمن ذلك:قوله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات.. وذكر منها: قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
    قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) قال بن عمر: من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها؛ سفك الدم الحرام بغير حله. رواه البخاري والحاكم من حديث عمر.
    وقال صلى الله عليه وسلم: (لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار) رواه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة.
    وقال صلى الله عليه وسلم: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم) رواه مسلم من حديث البراء بن عازب.
    ويقول عبدالله بن عمرو: رأيت رسول الله يطوف بالكعبة ويقول: ما أطيبك وما أطيب ريحك! وما أعظمك وما أعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم حرمة منك، ماله ودمه، وأن نظن به إلا خيراً) رواه بن ماجة.
    وقال صلى الله عليه وسلم: (كل ذنب عسى الله أن يغفره؛ إلا الرجل يموت مشركاً، أو يقتل مؤمناً متعمداً) رواه أبوداود وابن حيان والحاكم من حديث معاوية.
    وقال صلى الله عليه وسلم: (يأتي المقتول متعلقاً رأسه بإحدى يديه، متلبباً قاتله باليد الأخرى، تشخب أوداجه دماً، حتى يأتي به العرش، فيقول المقتول لرب العالمين: هذا قتلني، فيقول الله للقاتل: تعست ويذهب به إلى النار) رواه الترمذي من حديث ابن عباس.
    وقال صلى الله عليه وسلم: (من قتل مؤمناً فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً) رواه أبوداود من حديث عبادة بن الصامت. يعني فرح بقتله والعياذ بالله.والنهي عن إزهاق الأنفس، والاعتداء على الدماء لا يقف على قتل المسلم وإيذائه فقط، بل يتعدى ذلك إلى غير المسلمين من الذميين والمعاهدين، فيحرم قتل المعاهد، وهو الكافر الذي دخل بلاد المسلمين بأمان الحاكم، أو الكفيل لأجل العمل، أو الذي يمثل دولته في بلاد المسلمين، فنفسه معصومة، ودمه محقون، وقتله محرم وجريمة، يبرأ منها الإسلام، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً) رواه البخاري من حديث عبدالله بن عمرو.
    أسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين، وأن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن
    ....
    المزيد
  • صيانة الفتوى عن العبث

    • فضيلة الشيخ د/ عزيز بن فرحان العنزي
    • 1660
    الفتوى توقيع عن الله تعالى. قال محمد بن المنكدر: إن العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم، ولقد كان السلف من أكثر الناس هروباً منها، وكان أحدهم لا تمنعه شهرته بالأمانة واضطلاعه بمعرفة المعضلات حينما يُسأل أن يدفع بالجواب، أو يقول لا أدري، أو يؤخر الجواب إلى حين يدري، فشأن الفتوى عظيم، وخطرها جسيم، وتعيين المفتين منوط بولاة الأمور، لاطلاعهم على الأصلح فيها، ولحسم باب الجرأة من المتعالمين الذين لا يترددون في إفتاء كل من يتعرض لهم، وهم غير مؤهلين لذلك، أو أنهم أهل بدع ومخالفات قد يفسدون أكثر مما يصلحون خاصة إذا تعرضوا لمسائل الاعتقاد، أو الحلال والحرام، أو النوازل التي لا تصلح للفتاوى الفردية، وإنما تتصدى لها دور الفتوى، أو المجامع الفقهية، أو الشورى الجماعية لأهل الحل والعقد من الولاة والعلماء، وهي سنة صحابية، يقول الزهري: كان مجلس عمر مغتصاً من العلماء والقراء (كهولاً وشباناً) وربما استشارهم فكان يقول: لا تمنع أحدكم حداثة سنه أن يشير برأيه، فإن الرأي ليس في حداثة السن، ولا على قدمها، ولكن أمر يضعه الله حيث شاء، وربما سمع عمر رضي الله عنه الرجل يفتي منفرداً فيعلو هامته بالدرة. وزماننا هذا اتسم بمشكلات معقدة، ونوازل عجيبة، واكتشافات علمية، وتطورات إقليمية وعالمية، قابلها فتاوى فردية من مشهورين ومجهولين تمثل في الواقع ردود فعل مستعجلة، لا خطام لها ولا زمام بعد النظر والتمحيص، صادرة بانفعال وعدم روية، تستجيب لعواطف بعض المندفعين، وتحقق رغبتهم في سرعة الحكم على النوازل والحوادث، مشنعين في المقابل على العلماء الربانيين المفرغين للفتوى، وعلى دور الفتوى، ومجامع الفقه، واتهامها بالاستهلاك، وفي واقع الأمر أن التسيب الحاصل في شأن الفتوى، وافتيات البعض في هذ الشأن خاصة في القضايا المصيرية، يمثل ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ المسلمين بهذا الشكل الفج، يقول الخطيب البغدادي:(ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وتقدم إليه بأن لا يتعرض لها، وأوعده بالعقوبة إن لم ينته عنها، وقد كان الخلفاء من بني أمية ينصبون للفتوى بمكة في أيام المواسم قوماً يعيّنونهم، ويأمرون بأن لا يُستفتى غيرهم، والطريق للإمام إلى معرفة حال من يريد نصبه للفتوى أن يسأل عنه أهل العلم في وقته، والمشهورين من فقهاء عصره، ويعوّل على ما يخبرونه من أمره).أ.هـ.
    وقال ابن القيم: من افتى الناس وليس أهلا للفتوى فهو آثم عاص، ومن أقره على ذلك فهو آثم أيضا - قال أبو الفرج بن الجوزي: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب، وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبب الناس، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبيب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة، ولم يتفقه في الدين؟ وكان شيخنا - يقصد ابن تيمية - شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء:أجعلت محتسبا على الفتوى؟ فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب. أ.هـ.

    وليس هذا تعقيداً أو تضييقاً كما يظن البعض، بل هو ضبط لأخطر أمر في الدين، تتعلق به مصلحة مجموعة الأمة، خاصة وأنه قد خاض فيه، واقتحم ميدانه، من ليس أهلاً له، وصدرت فتاوى مشهورة سفكت بسببها دماء، وأحدثت فتنا متعاقبة، وكدرت الصفو، وجرّت على الأمة ويلات في ظل وجود علماء يشهد لهم القاصي والداني بمتانة الدين، ووفرة العلم، وسلامة المعتقد، وحسن السيرة، ممثلين في لجان الفتوى، وفي هيئة كبار العلماء، وأيضاً في المجامع الفقهية التي ساهمت وبشكل كبير في حل كثير من المعضلات والنوازل
    ....
    المزيد
  • قد افلح من زكاها

    • فضيلة الشيخ د/ عزيز بن فرحان العنزي
    • 1689
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله,, وبعد:
    تكمن في النفس البشرية ثلاث قوى، هي القوة العقلية، والقوة الغضبية، والقوة الشهوانية، وهذه كلها مستلة من قول الله تعالى: (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون) وايضا من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما سئل عن أي الذنب أعظم؟ قال: (ان تجعل لله ندا وهو خلقك) قيل ثم اي,؟ قال: (أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك) قيل ثم أي قال: (ان تزني بحليلة جارك) مخرج في الصحيحين من حديث ابن مسعود.
    وأعلى هذه القوى هي القوة العقلية، وقد خص الله بها جنس الإنسان عن سائر الدواب، وتشاركه فيها الملائكة كما قال ابوبكر بن عبدالعزيز: (خلق للملائكة عقول بلا شهوة، وخلق للبهائم شهوة بلا عقل، وخلق للإنسان عقل وشهوة، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فالبهائم خير منه), وتبلغ القوة العقلية تمامها بالعلم والإيمان وتوحيد الله وإفراده في ألوهيته وربوبيته، والاستدلال بمخلوقاته على عظمته وقيومته، وتبلغ القوة العقلية اسفل دركاتها بالكفر، والشرك، والابتداع، وإعمال هذه القوة في غير ما خلقت له ولذلك يطلق على من سخر هذه القوة في ما يضر ولا ينفع بالميت الموت المعنوي كما قال تعالى: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها).
    والقوة الغضبية تأتي في المرتبة الثانية في النفس البشرية وجنس القوة البغض, وتبلغ القوة الغضبية ذروتها يوم ان يصرفها في مراد الله ومحبوبه، وفي مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومحبوبه, ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: (أوثق عرى الايمان الحب في الله والبغض في الله) وما ينتج عن هذا البغض في الله من آثار كثيرة مضبوطة بضوابط الشرع هو من هذه القوة المحمودة.
    وتنحط القوة الغضبية الكامنة في النفس البشرية الى الحضيض عندما يسيرها الشيطان، فيدفعها الى القسوة بالقول والفعل، وذلك عن طريق الشتم او اللعن أو النميمة، أو الكذب، أو الاعتداء المحرم باتلاف الاعضاء، أو إزهاق الانفس المعصومة المحرمة بغير وجه حق, ولذلك جاءت الشريعة بضبط القوة الغضبية، وذلك بخطمها بزمام الإيمان وكفها عن الظلم بجميع أنواعه، وامرها بالعدل، والقسط، والإحسان، والعفو والصفح، والحلم والجود، وغيرها من الاخلاق التي تسمو بها النفس عن أن تكون منقادة للشيطان فترتفع الى درجات الفضيلة في الأقوال والتصرفات والأفعال.
    وأما القوة الشهوانية فتأتي في المرتبة الثالثة وجنس هذه القوة الحب, وهذه القوة لا تكاد تخلو منها نفس بشرية لكنها تتفاوت من جهة القوة والضعف، من شخص لآخر حسب ما قام في النفس من الإيمان والمراقبة فالإيمان كلما قوي اضعف من سورة القوة الشهوانية، إما بانعدامها بالكلية، او التقليل منها, والقوة الشهوانية كامنة في النفس البشرية كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شرره عما في زناده.
    وتبلغ القوة الشهوانية اسفل دركاتها يوم ان يقع المرء في الزنا كما نبه الشارع الحكيم على ذلك، ولذلك لا يكاد يخبو نار القوة الشهوانية إلا بأمرين:
    الأول: مواقعة الأمر وملابسته وبهذا تستغل هذه النفس فتكون طينية سفلية، وتعاقب بالقوة وحرمان لذة العبادة وغيرها من العقوبات الروحية والجسدية.
    الثاني: الامتناع عنها، والانكاف عن ملابستها وذلك بحسم الوسائل المفضية إليها، وهنا تسمو النفس وترتقي، فيعوض الله تلك الحرارة الرهيبة والتي أشعلتها القوة الشهوانية في النفس البشرية بلذة، يجد حلاوتها بانشراح وسعة صدر، وراحة بال وطمأنينة وهناء في العيش مصحوبة بنشوة الانتصار على الشيطان والنفس الأمارة بالسوء.
    لذلك ينبغي على العاقل الانتباه الى هذا الامر العظيم، وإعمال جميع الوسائل المفضية الى المقصود العظيم، وهو الوصول بالنفس الى أعلى صفاتها، وأكمل درجاتها، وهي النفس (المطمئنة) وحسم جميع الوسائل المفضية الى النزول بالنفس إلى اسفل دركاتها.
    اللهم ارزقنا نفوسا مطمئنة، تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك، وتخشاك حق خشيتك 
    ....
    المزيد