ركن المقالات
  • ظاهرة تعبير الأحلام

    • فضيلة الشيخ د/ عزيز بن فرحان العنزي
    • 1867
    ان أمر الرؤى والأحلام من الأمور التي اعتنت بها الأمم على مر العصور وكر الدهور، وذلك لما تعكسه هذه الرؤى على نفوس الناس من تأثيرات تتنوع ما بين أفراح وأتراح، حسب ما يرون في مناماتهم مما يقدره الله سبحانه وتعالى، وهذه الرؤى والأحلام من الأمور الجبلية التي يتعرض لها جنس الانسان، وهي اعتقادات أو ادراكات يعلقها الله في قلب العبد على يدي ملك او شيطان،
    ولقد زادت عناية الأنبياء عليهم السلام بها، وهكذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان غالبا ما يقول عندما يصبح ويجلس بين أصحابه: «هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا» فعناية النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال عنها دليل على شدة الاهتمام بأمر الرؤيا، الا انه في الآونة الأخيرة زاد اعتناء الناس بأمر الرؤى والأحلام زيادة ملحوظة، لكثرة ما يرونه في مناماتهم، حتى أصبح الشيطان يلعب بعقول كثير من الناس ونفوسهم، وأخرجهم هذا الاهتمام الزائد الى كثير من الأمور غير المشروعة والتخبط الكبير والبعد عن المنهج النبوي في التعامل مع ما يرونه في مناماتهم، ولا سيما جنس العامة الذين هم أسرع الناس الى التأثير والتصديق من غيرهم،
    وهذا الاهتمام الزائد بالرؤى والأحلام أفرز لنا في المقابل عددا ليس بالقليل ممن يتصدى لتعبير الرؤى، وهم ما بين متمكن موفق يحمل صفات المعبر الشرعي وهم قلة قليلة، وما بين هاوٍ متطفل على مائدة المعبرين من أهل العلم والبصيرة يتلذذ لكل جديد، ويطير مع كل غريب، ويحاول ان يقتحم هذا الامر العظيم والخطب الجسيم، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ويقذفون بالغيب من مكان بعيد، حتى انك لتسمع الآن في البلد الواحد عشرات الأشخاص الذين يزاولون تعبير الرؤى، والكثير منهم يهرفون بما لا يعرفون، فتجد بعض هؤلاء الهواة إن صح التعبير يعبرون رؤى من يسألهم، من خلال خلفيات معينة يحملونها، إما ثقافية، أو فكرية، أو منهجية، أو سياسية، أو عاطفية، فيطوعون الرؤيا لهذا المشرب أو ذاك، نسأل الله السلامة والعافية،
    وفي هذا الوقت الذي يعيش فيه العالم اضطرابا بشتى الأحداث، بدأ الكثير من هؤلاء يتجاوزون في تعبيرهم للرؤى والأحلام حدودا لا يجوز لأهل العلم السكوت عليها، خاصة في جزمهم بوقوع أشياء، ، وخروج أشخاص، ، وتغير سنن كونية، ، وأشياء كثيرة، نسمعها ونقرأها من هنا وهناك، لا يسعفهم الواقع أثرا ولا نظرا،
    وقد ذكرتني هذه الظاهرة، بظاهرة احتراف الرقية الشرعية التي انتشرت في العقد السابق انتشارا كبيرا، وتطلع اليها الكثير، حتى ان كثيرا ممن كان مريضا وشفي على يد أحد القراء، بدأ يحترف القراءة، وضرب الناس على بابه بعطن، ولا يفهم من كلامي انكار الرقية الشرعية، كلا! ولكن المنكر، احترافها والجلوس لها، فهذا لم يكن عليه السلف الصالح،
    وبانحسار مد ظاهرة احتراف الرقية، بدأت تلوح بالأفق هذه الظاهرة وهي تعبير الرؤى والأحلام مما ينبىء بانتشارها على نطاق واسع ان لم يكن لأهل العلم تدارك فيها قبل ان تصبح حرفة في الأيام القادمة ولا استبعد ان يشترط البعض على تعبيرهم للرؤية مبلغا محددا، يصنف على حسب قوة الرؤية من ضعفها!! كما حصل لكثير من الذين يرقون، فيصبحون يتآكلون بها في كتب تباع أو روايات تحكى يخوفون بها الناس لتحقيق مطامع ومصالح، مثل تلك الرؤى التي يروج لها أرباب الطرق الصوفية يزعمون فيها ان من روجها بين الناس وفعل ما فيها حصل له من الفضل كذا وكذا وان من أعرض عنها ولم يفعل ما فيها أصابه من الضر ما الله به عليم، زعموا، أو تحدث فتنة بين الناس خاصة ما نسمعه ونقرأه من الجزم بخروج المهدي مثلا، أو تغير سنن كونية في العالم،
    وقد رأيت ان الحاجة الى الحديث عن مثل هذه الظاهرة في مرتبة الضرورة في هذا الوقت بالخصوص أكثر من غيره للأسباب التي ذكرتها آنفا، وخوفاً على الناس من ان يلعب بهم الشيطان، وتذكيرا للمتطفلين ممن يحاولون اقتحام هذا الأمر، فتعبير الرؤيا من ضروب الفتوى، وهو من العلوم الشرعية، له اصوله وقواعده، فلا ينبغي ان يتصدى لها الا عالم او فقيه بها، ومن قال فيه كذبا ففي الشر وقع يقول تعالى: «ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون»،
    وقد سئل إمام دار الهجرة مالك بن انس أيعبر الرؤيا كل احد؟ فقال: أبا لنبوة يلعب؟!
    وقال رحمه الله: لا يعبر الرؤيا الا من يحسنها، فان رأى خيرا أخبر به، وان رأى مكروها فليقل خيرا أو ليصمت،
    أولى لك أولى أيها المجازف، ، ثم أولى لك فأولى،
    وينبغي لمن يحسن التعبير أيضا اذا أخبر برؤيا ان يعبرها على خير وان يحذر أشد الحذر من تخويف الناس بها، قالت عائشة رضي الله عنها: «كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج يختلف يعني في التجارة فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ان زوجي غائب وتركني حاملا فرأيت في المنام ان سارية بيتي انكسرت واني ولدت غلاما أعور فقال خير يرجع زوجك ان شاء الله صالحا وتلدين غلاما برا فذكرت ذلك ثلاثا فجاءت ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غائب فسألتها عائشة فأخبرتها بالمنام فقالت لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك وتلدين غلاما فاجرا فقعدت تبكي فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مه يا عائشة اذا عبرتم الرؤيا فاعبروها على خير فان الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها» فأين هذا المنهج من فعل كثير ممن بثوا الرعب في قلوب الناس، وجلبوا لهم القلق الدائم، والحسرة التي لا تنقطع من خلال تعبيراتهم المجانبة للصواب،
    والمقرر عند أهل العلم ان الرؤى والأحلام لا يترتب عليها أحكاما في الواقع، الا ما يراه الأنبياء والرسل، فهناك فرق بين رؤيا الأنبياء ومن سواهم من الناس، فرؤيا الأنبياء حق وهي من الوحي فانهم معصومون من الشيطان، ولهذا لما رأى ابراهيم الخليل في المنام انه يذبح اسماعيل أقدم على ذبحه، وأما رؤيا غيرهم من البشر فتعرض على الوحي الصريح، فان وافقته والا لم يعمل بها ولم يلتفت اليها، وان هذه المنامات التي يراها الناس انما هي مبشرات لا يعقد عليها حكم شرعي يقول هشام بن حسان: كان ابن سيرين يسأل عن مئة رؤيا فلا يجيب فيها بشيء الا ان يقول اتق الله وأحسن في اليقظة فانه لا يضرك ما رأيت في النوم وكان يجيب في خلال ذلك ويقول انما اجيبه بالظن والظن يخطىء ويصيب،
    والمقرر عندهم انه ليس كل ما يراه المرء في منامه يكون حقا، فلقد اختلط على كثير من الناس أمر الرؤيا، لما بعدوا عن هدي الشرع الحنيف، ووقعوا في المعاصي، لعبت بهم الشياطين حتى ظن الكثير منهم ان كل ما يرى في المنام حق لابد من وقوعه، ولذلك تجد الواحد منهم يرى أكثر من رؤيا في المنام الواحد فيها ما يفزعه كلها من تلعب الشيطان به، فعن جابر رضي الله عنه جاء اعرابي الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي ضرب فتدحرج فاشتددت على أثره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحدث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك،
    والواجب على هؤلاء ملازمة الأذكار الشرعية قبل النوم، كقراءة آية الكرسي والمعوذات وخواتيم سورة البقرة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» وقال صلى الله عليه وسلم: «اذا قلت قل هو الله أحد قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ثلاث مرات حين تصبح وحين تمسي تكفيك من كل شيء»،
    وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شيء»،
    وينبغي على الناس جميعا ان يتعلموا المنهج الشرعي في التعامل مع ما يرون سواء كان مما يسرهم أو ما يسوءهم، فمن رأى رؤيا مكروهة عليه فعل ستة أشياء:
    (أ) ان يتعوذ بالله من شرها،
    (ب) ان يتعوذ بالله من شر الشيطان،
    (ت) أن يتفل عن يساره ثلاثاً حين يهب من نومه تحقيراً للشيطان،
    (ث) ان يتحول عن جنبه الى الآخر،
    (ج) ان يصلي،
    (ح) ألا يذكرها لأحد،
    فاذا فعل هذه الأشياء فانها لا تضره، ويذهب الله من قلبه ما يجد من أثرها وان كانت صالحة ينبغي له فعل أربعة أشياء:
    (أ) ان يحمد الله عليها،
    (ب) ان يستبشر بها،
    (ج) ان يحدث بها من يحب دون من يكره،
    (د) ان يسأل عنها عالما أو ناصحا،
    والواجب على أهل العلم طرق هذا الموضوع في جميع الوسائل، ومن خلال كل المنابر الاعلامية، وبيان المنهج الشرعي السليم في التعامل مع الرؤى والأحلام، وارشاد الناس الى ما ينفعهم، وسد الطريق أمام المتهوكين ممن يظنون ان التعبير أمره يسير وانه ينال بالاكتساب والتأهيل، وانه مرعى مستباح لكل أحد لا ينبغي حكره على فئة معينة، حتى أدى بنا الحال الى ما بدأنا نلمسه من التداعيات والمجازفات والجرأة العجيبة وغياب المنهج الصحيح لهذا الفقه الذي لا توجد به مساحة للاجتهاد والتدرب، وانما هو هبة يمنحها الله من شاء من عباده، يعرفون بصدقهم واخلاصهم وعلمهم بالكتاب والسنة وشدة تمسكهم وأخذهم بهذين الأصليين العظيمين، وأيضا ما يلمسه الناس من صدقهم من خلال اصابتهم في التعبير،
    والحمد لله أولا وآخرا .
    ....
    المزيد
  • كثرة الانجاب سلاح الأمة ( رد على موضوع )

    • فضيلة الشيخ د/ عزيز بن فرحان العنزي
    • 1622
    اطلعت على ما كتبه الاستاذ سلمان بن محمد العُمري في جريدتكم الغراء العدد 10078 وذلك يوم الثلاثاء الموافق 27/1/1421هـ بعنوان نقطة نظام والتي ناقش فيها ما كتبه الاستاذ: يوسف الذكير في جريدة الرياض وذلك يوم الثلاثاء الموافق 27/1/1421هـ مقاله الذي عنون له  بـ وعي الانجاب والذي يدعو فيه كاتبه الى تقليل النسل، بعد ان حشد فيه ارقاماً يشير فيها الى عدد سكان المملكة في العقود القادمة والتي تمثل خطراً على الاقتصاد، عطفاً على ما نعيشه في هذه السنوات، وقد ألفيت نقاش الاستاذ العُمري جيداً ولاسيما وقد ناقشه في اللغة التي تحدث بها، وانني ازيد على ما ذكره الاستاذ العُمري من ذكر بعض الامور الشرعية التي وقع فيها الاستاذ الذكير وفقه الله في مقاله متمنياً منه ان يراجع فيه ما ذكر، وواضعاً في ذهنه وذهن جميع القراء ان الاسلام فيه كل ما يتصل بصلاح امر الدنيا وسعادة الآخرة، وانه لا يرفض وضع الخطط المستقبلية الخاصة في معاش الناس، وهذا ما تنتهجه حكومتنا وفقها الله وايدها، ففي قصة يوسف في تعبيره رؤيا الملك ما يشير الى هذا، وكذلك ما صنعه الخلفاء الراشدون، وهذه الخطط تكون بالنظر الى احتياج الناس ومتطلباتهم بالنسبة الى اعدادهم الواقعة والمتوقعة، لا في الدعوة الى تقليل جنسهم، ولا يخفى هذا على مطلع , وقد جانب الاستاذ الذكير وفقه الله الصواب حينما حاول لي عنق النص الذي يدعو فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الى التناسل والتكاثر، وان هذا خاص في زمن الرسول حينما كانوا قلة يانعة، ولاشك ان هذا باب لو فتح لانهدم كثير من احكام الاسلام، ولأصبحت الامور رجراجة، لان هذا الطرح يحمل فكرة عدم صلاحية الاسلام لكل زمان ومكان، والظن بالاستاذ الذكير انه بعيد عن هذا، ولو تفكر في خطورة هذا التفسير واعاد النظر فيه مرة اخرى لهدي الى الحق باذن الله, وايضاً تعليله بأن الرسول دعا الى تكثير النسل لما كانت اعداد المسلمين قليلة مقارنة بما يحيط بهم من كثرة ساحقة لامم النصارى والاحباش والمجوس، فقد غفل عن آخر الحديث الشريف فإني مكاثر بكم الامم يوم القيامة .
    وايضاً الذي يعرفه العامي والمتعلم انه ليس هناك وجه مقارنة بين المسلمين وغيرهم من امم الروم، والصين، والهند، وجنس الترك,, الخ من جهة العدد، فعلى هذا يكفي في هذا الامر انتقاض قاعدة الاستاذ الذكير في دعواه السابقة.
    والعجيب من الاستاذ الذكير وفقه الله انه يفرح بظاهر اي نص يوافق ما يذهب اليه دون النظر والتمحيص والتريث، فهو قد جعل من اخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيأتيكم زمان تكونون فيه مثل غثاء السيل لا تنفعكم كثرتكم دليل على تقليل النسل وان الكثرة ليست بنافعة، ومما يدرك بأوائل العقول قبل أواخرها ان الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام بالنظر الى الكيف لا الكم، وان الكثرة اذا لم تكن على مستوى من الوعي وتحمل المسؤولية فلن تنفعها كثرتها.
    وايضاً فإن مسألة الارزاق محسومة من قبل ربنا عز وجل الذي امرنا بالتكاثر والتناسل عن طريق بذل الوسائل في ذلك، ونعى على الكفار الذين يقتلون اولادهم خشية الفقر فقال:نحن نزرقهم وإياكم وفي الآية الاخرى نحن نرزقكم وإياهم وبين تعالى ان رزق كل دابة عنده سبحانه وتعالى فقال: وما من دآبة إلا على الله رزقها وقال وفي السماء رزقكم وما توعدون وقال صلى الله عليه وسلم إن الله قدر مقادير كل شيء قبل ان يخلق السموات والارض بخمسين الف عام خرجه مسلم.
    فمحاولة تغيير الثوابت او تحريكها مسألة لا طائل تحتها، الا زرع الشك، وتكدير الصفو.
    ففرق بين ان ترشد الناس فتزرع عقيدة الايمان بالقدر في صدورهم، وان ربنا تعالى هو المتولي لأمورهم، وانه مصدر كل خير، وكاشف كل ضر، ورازق كل دابة, وبين ان تجعلهم نهباً للأوهام والوساوس وذلك بتخويفهم من المستقبل الذي شأنه بيد من اختص بعلم الغيب سبحانه، فالاول يكون متطلعاً دائماً الى ما عند الله، راجياً عونه ومدده، فهو بهذه العقيدة تجده عالي الهمة، رابط الجأش، اريحي ذا شفافية، ولو عضه الفقر، وأنابه الدهر, واما الثاني فتجده خائفاً قلقاً على الدوام ولو كان غنياً موسراً، قد خيم عليه كابوس الخوف من المستقبل بسبب ما حشي في اذنه وفكره من الافتراضات المبنية على الظن والتخمين، والتي تنذر بسيل قد انعقد غمامه كما يذهب الى ذلك من اعتمد على امثال هذه الفكر.
    وفي الحقيقة لا اريد ان اعيد ما ذكره الاستاذ العُمري من غنى مملكتنا الغالية، ومخزوناتها المتنوعة، واننا بحاجة الى كثافة سكانية تفجر كنوز الارض التي تسبح عليها بلادنا بحمد الله وفضله، بقدر ما اريد ان أذكر به الاستاذ الذكير من ان البركة في التناسل، وانه كلما كثر عدد الاولاد كلما جاء الخير معهم، وتاريخنا القريب اظنه لا يخفى على من يحكم العقل وينحي الهوى جانباً، فكثير من الناس في العهد القريب لا يجد العظام ولا كسرة الطعام فلما استولد جاءه الرزق والخير، وكلما ازداد عدد الاسرة تنامى الرزق وتبارك.
    والاستاذ الذكير اراد النصح، الا انه جانب الصواب، بل وأبعد كثيراً، فالمنتظر منه ومن امثاله من الكتاب الناصحين ان يعالجوا الفروع ولكن من غير اجتثاث الاصول، فالواجب ان يعالجوا كيفية مواجهة التفجر السكاني من منظور شرعي منطلقين فيه من الاصول والثوابت في ديننا، لا القضاء عليه.
    وايضاً ينبغي للمسلم ان يحتضن مبدأ الاعتزاز والاعتداد بالايمان والعقيدة، وان ينأى عن الاستحذاء للغير، ومتابعته في غثه وسمينه، فما يجوز لغيرنا من الامم ربما لا يجوز لنا ولا يحل
    ....
    المزيد
  • خطورة الغلو في التكفير

    • فضيلة الشيخ د/ عزيز بن فرحان العنزي
    • 1849
    في أن حكم التكفير لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم .

    تحدثت في الحلقة السابقة عن سماحة الإسلام ، ويسر الشريعة ، وأن الغلو بجميع صوره يتنافى مع هذه السماحة العظيمة لهذا الدين ، وهنا أشير إلى أن الحكم بتكفير أحد من الناس أحد أنواع الغلو الذي مقتته الشريعة ، ونهت عنه ، ووجود أحكام الكفر في الشريعة لها ضوابط دقيقة ، فهي لا تخضع للأذواق ، والأقيسة ، والآراء ، والأهواء ، وإنما هو حكم شرعي لله ، تعالى ، ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وليست حماً مباحاً يرتع فيه كل أحد ، يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة ، رحمه الله : \\\" التكفير حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال ، وسفك الدماء ، والحكم بالخلود في النار ، فمأخذه كمأخذ سائر الأحكام الشرعية ؛ فتارة يدرك بيقين ، وتارة يدرك بظن غالب ، وتارة يتردد فيه ، ومهما حصل تردد فالتوقف عن التكفير أولى ، والمبادرة إلى التكفير : إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل \\\"

    ويقول أيضاً ، رحمه الله :\\\" فلهذا كان أهلُ العلم والسنّة لا يكفِّرون من خالفَهم وإن كان ذلك المخالِف يُكفِّرهم ؛ إذِ الكفر حكمٌ شرعيّ ، فليس للإنسان أن يعاقبَ بمثلِه ؛ كمن كذب عليكَ ، وزنى بأهلِك ، ليس لك أن تكذِب عليه ، ولا تزني بأهله ، لأنّ الكذبَ والزنا حرامٌ لحقّ الله تعالى ، وكذلك التكفير حقُّ لله ، فلا يُكفَّر إلاّ من كفّره الله ورسوله \\\"

    ويقول الإمام العلامة ابن القيم ، رحمه الله :
    الكفر حقُّ الله ثم رسولِه *** بالنصِّ يثبت لا بقول فلانِ
    من كان ربُّ العالمين وعبدُه *** قد كفّراه فذاك ذو الكفرانِ

    ويقول الإمام القرافيّ رحمه الله : \\\" كونُ أمرٍ ما كفرًا- أيّ أمرٍ كان- ليس من الأمور العقليّة ، بل هو من الأمور الشرعيّة ، فإذا قال الشارع في أمرٍ ما : هو كفر ؛ فهو كُفر \\\"

    ولقد جاء في الزجر عن التكفير ، والتخويف من عواقبه وآثاره : نصوص كثيرة في الكتاب العزيز والسنة النبوية ، وفي واحدٍ من هذه النصوص ما فيه أعظم زاجر ورادع لمن لديه أدنى مخافة من الله تعالى من الخوض في هذا المرتع الوخيم .

    قال تعالى : ( ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) ، ففي هذه الآية نهى الله تعالى عن التنابز بالألقاب ، والنهي يفيد التحريم ، كما هي القاعدة المقررة عند أهل العلم ، إذا لم يكن ثمة صارف ، ومن التنابز بالألقاب ، إطلاق ألفاظ التكفير والتفسيق على المسلمين .
    قال بن عبدالبر : قال جماعة من المفسرين في هذه الآية : هو قول الرجل لأخيه ، يا كافر ، يا فاسق .

    ولقد حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيراً شديداً من أخطار الذين يُكفّرون المسلمين ؛ فعن حُذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : \\\" إن أخوف ما أخاف عليكم رجلٌ قرأ القرآن ، حتى إذا رُئيت بهجته عليه ، وكان ردئاً للإسلام ، انسلخ منه ، ونبذه وراء ظهره ، وسعى على جاره بالسيف ورماه بالشرك \\\" قال : قلتُ : يا نبيَّ الله! أيهما أولى بالشرك ، الرامي أم المرميُّ ؟ قال : \\\"بل الرّامي \\\".

    ومما يدلنا على فظاعة التكفير ، وسوء عاقبته ، أن المرمي بالتكفير إذا لم يكن مستحقاً لهذه الكلمة رجعت على قائلها ـ عياذاً بالله تعالى ـ فكان أولى بها وأهلها .

    فعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: \\\" إذا قال الرجل لأخيه: يا كافرٌ ، فقد باء بها أحدهما \\\" . قال بن عبدالبر في قوله صلى الله عليه وسلم ( باء بها ) : \\\" أي احتمل وزرها ، ومعناه أن الكافر إذا قيل له : يا كافر ، فهو حامل وزر كفره ، ولا حرج على قائل ذلك له ، وكذلك القول للفاسق : يا فاسق ، وإذا قيل للمؤمن : يا كافر ، فقد باء قائل ذلك بوزر الكلمة ، واحتمل إثماً مبيناً وبهتاناً عظيماً ، إلا أنه لا يكفر بذلك ، لأن الكفر لا يكون إلا بترك ما يكون به الإيمان \\\"

    وعن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: \\\"لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق ، ولا يرميه بالكفر، إلا ارتدتْ عليه إن لم يكنْ صاحبه كذلك \\\" . وفي رواية لمسلم : \\\" من دعا رجلاً بالكفر ، أو قال : عدو الله ، وليس كذلك إلا ارتدت عليه \\\"
    وعن عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله
    صلى الله عليه وسلم قال : \\\"سبابُ المسلم فسوقٌ ، وقتاله كفرٌ \\\" .

    وهذا غيض من فيض مما ورد في الزجر عن التكفير ، والنهي عن تقحم هذا الباب الخطير ، مما يجعل المؤمن ـ الذي يرجو ما عند الله ويخاف موعوده ـ يتورع في دينه ، ويخلص لربه ، وينقاد لنبيه r ويفر من التكفير فراره من الأسد ، وعليه أن يكون : تواباً ، أواباً ، يكثر من البكاء على خطيئته ، والندم على ذنبه ، وأن يحمل السلامة للمسلمين بقلبه ، ولسانه ، ويده .

    يتبع بإذن الله .
    ....
    المزيد
  • خطورة الغلو في التكفير

    • فضيلة الشيخ د/ عزيز بن فرحان العنزي
    • 1869
    في تهيب العلماء من مسألة التكفير .

    ولأجل ما سلف كان أهل العلم يتهيبون ولوج هذا الباب الخطير ، ويرون أن الحكم على المسلم بالكفر دونه عقبات ومفاوز ، ويرون أن من ثبت إسلامه بيقين ، لا يُنفى عنه إلا بيقين ، وهذا اليقين النافي لا بد أن يكون مثل الشمس في رابعة النهار .
    ومع كل هذا !! فأهل العلم والدين يحتاطون للدماء ، فيجعلون الحكم فيه إلى القضاة والمفتين ، لما يترتب على التكفير من الأحكام العامة والخاصة ، فمن كفر أحداً من المسلمين ، وهو غير ذي ولاية ، فهو مفتات على ولاة الأمر ، يستحق العقوبة الزاجرة ، لكون هذا الأمر يجر إلى الفساد العريض ، والهرج الكبير ، فقد يكون بين شخص وآخر خصومة دنيوية ، أو شيئاً من مخبآت النفوس ، فيحاول الانتقام منه عن طريق تكفيره ـ عياذاً بالله ـ والسوابق التاريخية ، والممارسات المعاصرة من بعض من ينحو منحى التكفير خير شاهد ودليل ، ولذلك يُقتصر في الحكم على الآخرين من جهة الردة وعدمه على ولاة الأمور ، ومن يستمد سلطته من ولي الأمر .

    وعبارات العلماء في خطورة التكفير ، وتعظيم الخوض فيه لا تخفى على مطلع ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : \\\" فليس لأحدٍ أن يُكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلِط ، حتى تقام عليه الحجة ، وتبين له المحجة . ومن ثبت إيمانه بيقين لم يَزُلْ ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة\\\" ا.هـ

    وقال الغزاليّ رحمه الله : \\\" والذي ينبغي الاحترازُ منه التكفيرُ ما وجد إليه سبيلا ، فإنّ استباحةَ الدماء والأموال من المصلِّين إلى القبلةِ المصرّحين بقول : لا إله إلا الله محمّد رسول الله خطأ ، والخطأ في ترك ألفِ كافرٍ في الحياة أهونُ من الخطأ في سفكِ دمٍ لمسلم \\\"

    وقال ابن الوزير اليماني رحمه الله : \\\" وفي ضوء ذلك ما يشهد لصحة التلفظ في تكفير المؤمن وإخراجه من الإسلام مع شهادته بالتوحيد والنبوات ، وخاصة مع قيامه بأركان الإسلام ، وتجنبه للكبائر ، وظهور أمارات صدقه في تصديقه لأجل غلطة في بدع ، لعل المكفر له لا يسلم من مثلها ، أو من قريب منها ، فإن العصمة مرتفعة ، وحسن ظن الإنسان بنفسه لا يستلزم السلامة من ذلك عقلاً ولا شرعاً، بل الغالب على أهل البدع شدة العجب بنفوسهم ، والاستحسان لبدعتهم، وربما كان أجر ذلك عقوبة على ما اختاروا أول مرة من ذلك كما حكى الله تعالى ذلك في قوله: (وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) وهي من عجائب العقوبات الربانية ، والمحذرات من المؤخذات الخفية قال تعالى : ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) وقد كثرت الآثار في أن إعجاب المرء بنفسه من المهلكات ؛ كما في حديث أبي ثعلبة الخشني عن ابن عمرو مرفوعاً (ثلاث ملهكات شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه) ا.هـ .
    وإن مما يؤسف له ما نشاهده من بعض من تقحم هذا الباب الخطير ، من أنصاف وأرباع المتعلمين وذلك من تورعهم وفرارهم من الفتوى في أبواب الطلاق ، وفي أبواب الأسهم والمعاملات ، وادعاءه عدم العلم ، أو الإلمام بها ، وضرورة التريث والتأني والنظر !! وفي المقابل جرأتهم العارمة في الخوض في المسائل الثقال ، والتي هي أشد على النفس من حمل الجبال ؛ كالتكفير ، والتفسيق ، والتبديع ، والتضليل !! نسأل الله السلامة !!
    وهذه المسألة من صميم عقيدة أهل السنة والجماعة المقتفين آثار السلف الصالح ، فهم لا يكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله ، عالماً معنى الاستحلال ، وكلامهم في هذا مشهور غير منكور ، فعن أبي سفيانَ قال : سألتُ جابرًا ـ يعني بن عبدالله ـ وهو مجاورٌ بمكّة : هل كنتم تزعُمون أحدًا من أهل القبلة مشركًا ؟ فقال: معاذ الله ، وفَزع لذلك ، فقال رجلٌ: هل كنتم تدعون أحدًا منهم كافرًا ؟ قال: لا .
    قال الإمام الطحاويّ ـ رحمه الله : \\\"ولا نكفّر أحدًا من أهل القبلةِ بذنبٍ ما لم يستحلَّه \\\" قال ابن أبي العزّ ـ رحمه الله ـ معلقاً على قول الطحاوي هذا : \\\"إنّ بابَ التكفير وعدم التكفير بابٌ عظُمت الفتنةُ والمحنةُ فيه ، وكثر فيه الافتراق ، وتشتتت فيه الأهواء والآراء ، وتعارضَت فيه دلائلُهم ، فالنّاس فيه على طرفين ووسَط ـ ثم حكى الخلاف ـ ثم قال : وإنه لمن أعظمِ البغي أن يُشهَد على معيَّن أن اللهَ لا يغفر له ولا يرحمه، بل يخلّده في النار\\\"

    وقال الإمام النوويّ رحمه الله: \\\" اعلم أنّ مذهبَ أهل الحقّ أنه لا يكفَّر أحدٌ من أهل القبلةِ بذَنب ، ولا يُكفَّر أهلُ الأهواء والبدَع وغيرُهم \\\"
    وقال الإمام الشوكاني رحمه الله : \\\" اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه ؛ إلا ببرهان أوضح من شمس النهار ، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة ( أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) هكذا في الصحيح وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما ( من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه ) أي: رجع وفي لفظ في الصحيح (فقد كفر أحدهما) ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير...\\\"ا.هـ.

    ومن أهم قواعد عند أهل السنة في هذا الباب أنهم لا يُكفرون باللوازِم من الأقوال ، فلازم القول والمذهب عندهم غير لازم ، ولا يحكمون على ما يمكن أن تؤول إليه الأفعال ، وإن كانوا ينهون عنها سداً للذريعة .

    يقول الإمام الشاطبيّ ، رحمه الله : \\\"مذهبُ المحقِّقين من أهلِ الأصول أنَّ الكفرَ بالمآل ليسَ بكفرٍ في الحال\\\"

    وقال الحافظ ابن حجر: \\\" إنَّ الذي يُحكَم عليه بالكفر مَن كان الكفرُ صريحَ قوله ، وكذا من كان لازمَ قوله وعُرِضَ عليه فالتزمَه ، أمّا من لم يلتزمه وناضَل عنه فإنّه لا يكون كافرًا ولو كان اللازم كفرًا\\\" .

    يتبع بإذن الله
    ....
    المزيد
  • خطورة الغلو في التكفير

    • فضيلة الشيخ د/ عزيز بن فرحان العنزي
    • 1653
    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
    فإن شريعة الإسلام شريعة عظيمة ، قائمة على السماحة واليسر ، وعلى التوسط والاعتدال ، فهي حسنة بين سيئتين ، وهدى بين ضلالتين ، وفضيلة بين رذيلتين ، لا إفراط فيها ولا تفريط ، ولا غلو ولاجفاء ، قال تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) أي : عدولاً خياراً . ونصوص الكتاب والسنة مستفيضة ببيان سماحة الشريعة ويسرها ، والسماحة في أحكامها واضحة جلية لكل من تتبعها في أصولها وفروعها ، وكتاب الله تعالى قد زخر بالنصوص التي تدل على هذا الأمر وتؤيده ، ومن ذلك :
    قول الله تعالى : ( هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ) .
    وقال تعالى : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم ولعلكم تشكرون ) .
    وقال تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) .
    وقال تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) .
    وقال تعالى : ( لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها ) .
    وقال تعالى : ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) .
    وإذا ما تصفحنا دواوين السنة الشريفة : نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء بالسماحة واليسر والرحمة بالخلق أجمعين ، كيف لا ؟! وقد أرسله الله تعالى رحمة للعالمين ، قال تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) فهو رحمته المهداة لعباده ، وقد وصفه الله تعالى بأبلغ من ذلك حيث : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) . أي : شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين أجمعين ، فهو أرحم بهم من والديهم .
    ولقد كان صلى الله عليه وسلم في حياته كلها يأخذ باليسر والسماحة في : أقواله ، وأفعاله ، وتقريراته . فعن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال صلى الله عليه وسلم : ( يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا ) . وعن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : ( ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ، ما لم يكن إثماً ، فإن كان إثماً كان من أبعد الناس عنه 00 ) .
    وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنما بعثت بالحنيفية السمحة ) . وعنها أيضاً ، رضي الله عنها ، قالت : قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينـزع من شيء إلا شانه ) .
    والنصوص في الكتاب والسنة في تقرير هذه المسألة أشهر من أن تذكر ، وأكثر من أن تحصر ، فمن القواعد المتفق عليها بين الفقهاء في المذاهب الأربعة أن :
    ( المشقة تجلب التيسير ) . وأن ( الأمر كلما ضاق اتسع وكلما اتسع ضاق ) .
    وأنه ( لا حرام مع الضرورة ولا واجب مع العجز ) . ويذكرون على هذا تطبيقات عملية كثيرة في كتب الفقه ، ليس هذا مجال استقصائها .
    ولكن من أعظم صور السماحة واليسر في هذه الشريعة ، نهيها عن الغلو في الدين ، لأنه منافٍ لسماحة الإسلام ، ومضاد لمقاصده ، ولقد تظاهرت نصوص القرآن والسنة ، في التحذير من الغلو في الدين ، وبيان عواقبه ، قال تعالى : ( قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل ) . فهذا الخطاب وإن كان لأهل الكتاب ، فالمسلمون داخلون فيه بطريق الأولى ، لأن ما حرمه تعالى في كتابه على أهل الكتاب ، وليس فيه ما يدل على أنه خاص بهم ، فهو حرام على جميع المسلمين لا سيما وأن الغلو ممقوت في جميع الشرائع ، ومما يؤيد ما سبق بيانه أن النبي r حرم الغلو ، وأشار إلى أن ما حصل من هلاك لمن سبق من الأمم ؛ إنما كان بسبب الغلو في الدين ، فقد روى ابن عباس ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ) وقد تكاثرت النصوص الشرعية في بيان خطورة الغلو في الدين على الاستقامة فيه ، فالله تعالى أمر بالاستقامة فقال : ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ) والاستقامة هي : الاعتدال من دون انحراف ولا تقصير .
    فلما أمر جل وعلا بالاستقامة ، أعقبها بالنهى عن الطغيان ، والطغيان هو مجاوزة الحد في كل شيء ، والغلو : يأتي في أعلى درجات سلم الطغيان ، وهو تعدٍ صريح لحدود الله تعالى ، وقد بين تعالى أن المتعدين لحدوده ظالمون ، قال تعالى : ( تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ) .قال ابن القيم ، رحمه الله : \\\" ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان : إما إلى تفريط وإضاعة ، وإما إلى إفراط وغلو ، ودين الله وسط بين الجافي عنه ، والغالي فيه ، كالوادي بين جبلين ، والهدى بين ضلالتين ، والوسط بين طرفين ذميمين ، فكما أن الجافي عن الأمر مُضيع له ، فالغالي فيه مضيع له ، هذا بتقصيره عن الحد ، وهذا بتجاوزه الحد \\\"
    ولأجل هذا أخبر النبي r بهلاك المتنطعين ، فعن عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هلك المتنطعون ـ قالها ثلاثاً ) قال النووي :\\\" أي المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم \\\" .
    أقول : ومع هلاكهم فهم محرومون أيضاً من شفاعة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فعن معقل بن يسار ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله r : ( صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي : سلطان ظلوم غشوم ، وغالٍ في الدين ، يشهد عليهم ويتبرأ منهم )
    والغلو هو : مجاوزة الحد في كل شيء ، وأخطر شيء يحصل فيه الغلو حينما يكون في الدين ، والغلو في الدين أيضاً مراتب من أشنعها وأقبحها وأخطرها ، هو : الحكم على المسلمين بالكفر وإخراجهم من الملة بغير دليل من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم .
    وحديثي في هذه الحلقات يدور كله حول هذا النوع من الغلو ، والذي يمثل جزئية من المعنى العام للغلو في الدين ، فقد أردت التنبيه عليه ، وبيان خطورته ، وآثاره ، والإشارة إلى أهم الضوابط عند أهل السنة والجماعة السائرين على طريقة السلف الصالح في هذا الباب العظيم ، وذلك بشكل مختصر ، يعتصم فيه المسلم الموفق ـ بإذن الله تعالى ـ من الانحراف والزلل .

    يتبع بإذن الله .
    ....
    المزيد